“على طرف جناحك يا حمام ها أربط لك مكتوبى وأملاه أشواقى” ، ، هكذا تغنى الناعمة ” نجاة ” كلمات الشاعر محمد البحطيطى ، فمن يستطيع أن يحمل رسائل العشاق أفضل من ” الحمام ” ؟! ويفرد الجاحظ فصولاً من كتابه ” الحيوان ” للحمام ، ويبدو المؤلف الكبير مولعاً بهذا الكائن الخفيف اللطيف حتى وهو يشرب الماء، فيقول الجاحظ :
ومتى رأى إنسان عطشان الديك والدَّجاجة يشربان الماء، ورأى ذئباً وكلباً يلطعَان الماء لطْعاً، ذهَبَ عطشه من قُبْح حسْو الديك ومن لطْع الكلب، وإن الإنسان لَيَرى الحمام وهو يَشرب الماء وهو ريّان فيشتهِى أن يشرب فى ذلك الماء معه.
و” القُمريُّ” نوع من الحمام الذى استخدمه الشعراء فى قصائدهم ، وكل الحمام حسن الصوت وإن اختلف فى ” الهديل ” واللون والحجم ، فالصوت ” لحن ” ونداء ومناغاة للأنثى وبحث عن لحظات متعة ، ومن صفاته حبه للناس، وأنُس الناس به، وهو من الطير الميامين ، وليس من الحيوان الذى تظهر له عورة كالكلب والحمارِ وأشباه ذلك، لذا فإن البيوت تحب وجود الحمام حتى وإن كانت رغباتها الجنسية لا تتوقف،فلا حرج ولا خجل من ” زوجى حمام ” يتناغيان .
وعلى أسطح البيوت فى القرى والنجوع يمكنك رؤية سيدة مصرية تجلس بأريحية تامة وبين يديها فرخ حمام ترفعه نحو فمها و” تزققه ” أى تضع له الماء والأكل فى فمه الصغير ، و” الزق ” هو فن الحمام وحده دون غيره من كائنات الأرض ، فالسيدة التى تقوم بالفعل لم تخترعه من نفسها ، ولكن من طريقة الحمام أصلاً فى التعامل مع أفراخه فور خروجها من البيض، يقول الجاحظ :”
وما أعجب حالاتِ الطعام الذى يصير في أجواف الحيوان، وكيف تتصرّف به الحالاتُ، وتختلف في أجناسه الوجوه: فمنها ما يكون مثل زق الحمام لفَرخه، والزقُّ في معنى الْقيء أو في معنى التقيؤ وليس بهما.”
والحمام يُخرجه من حوصلته ومن مستكنه وقراره برضا تام ،فهو يستغنى عن موضعِ حاجته ويدفع به إلى حوصلةِ ولده، قد طابت نفسه إلى ذلك ولم يشعر بالكدر أو الضيق ،ولعل اللذة التى يجدها فى إخراجه كلذته فى إدخاله، وإنما اللذة فى مثل هذا ـ كما يقول الجاحظ ـ كالمجارى، كنحو ما يعتري مجرَى النُّطفةِ من استلذاذ مرُور النَّطفة، فهذا شأن قَلْب الحمام ما فى جوفه، وإخراجه بعد إدخاله”.
عش هادىء يصلح لتربية الأبناء
ولا تظن أن ذكر الحمام يكتفى بالحب والرغبة ويتكاسل عن دونهما !، بل هو ومنذ أول مناغاة مع الأنثى يبدأ فى إعداد العش، ونقلِ القش والعيدان الصغيرة ، بينما تقوم أنثاه باختيار المكان ومساعدته فى تكوين حروف للعش تشبه السور الصغير تمنع البيض من التدحرج ، ويحتاج العش منهما إلى أيام حتى يدفيانه ويتخذ نفس رائحة أبدانهما ويتحول إلى حضّانة تستعد لاستقبال البيض فى درجة حرارة الحب والشوق ، وانظر كيف يصف لك الجاحظ عنايتهما بالبيض :” وإِذا وضَعت البيضَ في ذلك المكان فلا يزالان يتعاقبان الحضنَ ويتعاورانه، حتِّى إذا بلغ ذلك البيضُ مَداه وانتهَتْ أيّامه، وتمَّ مِيقاته الذي وظَّفه خالقُه، ودبَّره صاحبه، انصدع البيْض عن الفرخ، فخرجَ عاري الجِلْد، صغيرَ الجَناح، قليلَ الحِيلة، منسَدَّ الحلقوم، فيعينانه ، فهما يعلمان أن الفرخَينِ لا تتَّسع حلوقهما وحواصِلهُما للغذاء، فلا يكون لهما عند ذلك همٌّ إلاَّ أنْ ينفخا في حلوقهما الريح، لتتسع الحوصلةُ بعد التحامها ، ثم يعلمان أنّ الفرخ وإن اتّسعت حَوصلتُه شيئاً، أنّه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزقَّ بالطّعم، فيُزَقّ عند ذلك باللُّعاب المختلط بقواهما وقوى الطعْام – وهمْ يسمُّونَ ذلك اللُّعاب اللِّباء – ثم يعلمان أنّ طبع حوصلتِه يرق عن استمراء الغذاء وهضم الطُّعمِ، وأنَّ الحوصلة تحتاجُ إلى تقوية، ، فلا يزلان يزُقَّانه بالحبِّ والماء على مقدار قُوَّتِه ومبلغ طاقته، وهو يطلب ذلك منهما، حتى إذا علما أنّه قد استطاع اللقطَ منَعاه بعضَ المنْع، ليحتاج إلى اللقْطِ فيتعوَّده، حتى إذا علما أنْ أدَاتَه قد تمَّتْ، وأن أسبابَه قد اجتَمَعَتْ وأنَّهما إن فَطماهُ فطْماً مقطوعاً مجذوذاً قوِيَ على اللَّقط، وبلغ لنفسِه مُنتِهى حاجتِه – ضرباه إذا سألهما الكفاية، ونَفَياه متى رجع إليهما ثمّ تنْزَع عنهما تلك الرحمةُ العجيبة منهما له، وينسَيان ذلك العطف المتمكِّنَ عليه، فسبحان من عرّفهما وألهمهما، وهداهما، وجعلهما دَلالة لمن استدلّ، ومُخِبراً صادقاً لمن استخبر، ذلكم اللّه رب العالمين”.
هذا هو الجاحظ العبقرى الذى عشتُ طويلاُ اكتفى منه بالقليل ولم أجرؤ مطلقاً على قراءة كتاب كامل أو حتى أجزاء متتالية من مؤلفاته ليس فقط لصعوبة اللغة ، ولكن لضخامتها فهذا الكتاب ” الحيوان ” صدر فى بمصر عام 1938 فى سبعة أجزاء بتحقيق “عبد السلام هارون ” ، ولولا توفر نسخة إليكترونية ما استطعتُ جمع هذه المواد التى احتاجت وقتاً طويلاً لتنقيحها وتهذيب ألفاظها وإعادة صياغة عباراتها الطويلة واستبعاد الغريب منها ، وقد عاش الرجل حياة بائسة فرغم أنه كان قريباً من أحد وزراء الخليفة الوائق إلا أن الدوائر دارت عليه فقد قُتل الزيات بسيف المتوكل وكاد الجاحظ أن يُقتل هو الآخر باعتباره من الفلول ، لكنه أفلت من الجنود لتنتهى حياته بعد ذلك بمشهد درامى حيث عاش وحيداً مع مكتبة ضخمة سقطت على رأسه يوماً فمات تحتها.
تستطيع الاستمتاع بملخص كامل لكتاب الحيوان للجاحظ فى ترجمان الأشواق