ارتبط اسم مصر بكثير من الأنبياء ، فأرضها في العهد القديم مهدا وموطناً حينا، وملجأ وملاذا في أحيان أخرى ، فكذلك كانت لسيدنا إبراهيم عليه السلام وإسماعيل ويعقوب بالإضافة إلى اثني عشر نبيا من ولد يعقوب وسيدنا موسى وهارون وعيسى بن مريم ودانيال عليهم السلام ، وحظيت مصر بنيلها وزرعها “كفردوس في منطقة صحراوية جرداء” وبمكانة متميزة في سيرة الزمان البعيد .
ولاشك أن رحلة السيد المسيح إلى مصر أثناء مرحلة طفولته كانت مصدر إلهام العديد من الفنانين .
تلك الرحلة التي لم يكشف لنا التاريخ عن تفاصيلها، وإن كان الداعى إليها حماية المسيح الطفل من بطش الملك هيرودس ملك اليهود حينذاك. والذى وصلته أنباء ولادة ملك جديد لليهود في بيت لحم، فخاف منه على عرشه، وبيت النية لاغتياله في مهده فجاءت إشارة الله ببدء رحلة الفرار إلى أرض مصر، وأصطحب يوسف النجار العذراء وطفلها، سالكا الدروب الوعرة لكي يصل بهما إلى أرض الأمان والطمأنينة، ورغم أن حياة السيد المسيح بكل أحداثها ومشاهدها قد تناولها الفنانون في لوحاتهم محاولين الوصول بخيالهم الفني لتجسيد مناظر العهد القديم، فإن رحلة السيد المسيح إلى أرض مصر كانت موضوعا أثيرا لديهم رغم عدم وضوح التفاصيل التاريخية لتلك الرحلة، وأيضا بالرغم من عدم إلمام الفنانين الأوروبيين بعناصر المنظر المصري، وربما أضفى ذلك التعتيم التاريخي مسحة روحية وجاذبية خاصة لتناول وتصوير هذه الرحلة.
وفي اللوحات الست المنشورة لفنانين مختلفين، نجد تشابها ملحوظا في خمس منها نظرا لانتاجها في فترات زمانية متقاربة، فلقد انتجت فيما بين القرنين الثالث والرابع عشر، لهذا نجد عناصر التكوين متقاربة واختيار الزاوية والخلفية يكاد يكون واحدا ، وذلك بعكس اللوحة التى انتجت في القرن التاسع عشر، والتي تقدم لنا الموضوع في ثوب مغاير تماما .
ولعل من المفيد أن نعرض لملامح الأسلوب الفني خلال عصر النهضة، والذى تنطوى تحت لوائه اللوحات الخمس، إذ أن هذا الأسلوب يمثل انتقالا فريدا لمرحلة جديدة في تاريخ فن الإنسان. ورغم أن هذا الانتقال كانت له بوادره ومؤشراته التي ظهرت منذ القرن الحادي عشر، فإن المؤرخين قد اصطلحوا على اعتبار عام 1453 (وهو عام سقوط مدينة القسطنطينية) هو الحد الفاصل بين القرون الوسطى وعصر النهضة. ولقد اعتاد المثقفون على النظر إلى عصر النهضة الأوربية كظاهرة إيطالية في نشأتها ، وامتدت لها فروع أخرى في بقية الأقطار الأوربية، كفرنسا والأراضي الواطئة. وقد صاحبت هذه النهضة تطورات خطيرة في مجالات الفكر والعلم، ولكن ربما كان من أهم مظاهرها ما طرأ على الفن التشكيلي من تحول، حين أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن التجريد والرموز اللاهوتية، ويقترب أكثر فأكثر من التجسيم الواقعي، والمعاني الإنسانية، ومظاهر الحياة الواقعية. فالفن منذ عصر النهضة اكتسب شكلا مقتربا من الطبيعة، ولقد شاع هذا الأسلوب الجديد في شتى الأقطار الأوربية، وتميز إلى جانب اقترابه من صور الطبيعة وتناوله لموضوعات غير دينية كمشاهد الرقص والصيد وحياة القصور بفخامة وأناقة ولطف ورشاقة في الألوان والخطوط . ولقد أشاع القديس فرانسوا الأسيزي في الفكر الديني الأوروبي ابتداء من القرن الثالث عشر عوامل روحانية جديدة، حين تغنى بكل ما في الطبيعة من سماء ونجوم وطير وحيوان ونبات، ورأى هذا القديس الشاعر أن كل مخلوقات الله جديرة بالتأمل لأنها نعمة من عند الله- تلك النعمة الجديدة صادفت هوى في قلوب الفنانين، ووجهت انتباههم لما يحيط بهم من جمال طبيعي فبدأوا يهجرون الرموز الكهنوتية، واحتلت السماء الزرقاء مكان الأرضية المذهبة المصمتة رمز النور الإلهي، واخذت عناصر الطبيعة تظهر بشكلها القريب من الواقع مثل الجبال والاشجار والحيوانات والطيور.
ولقد اقتضت هذه النظرة الفنية الجديدة إيجاد وسيلة تساعد على الإيهام والتجسيم وإظهار البعد الثالث، فكان التوصل إلى علم المنظور هو السبيل إلى اصطياد الواقع فالمنظور الذى تتلاقى خطوطه المستقيمة عند نقطة واحدة، ووضع الأشياء والعناصر في مكانها بالقياس إلى بعدها الوهمي من سطح اللوحة، كانت كلها عوامل اكدت المفهوم الجديد الرامي إلى خلق إيهام قريب من الطبيعة ويماثل الواقع.
*جيوتو (1266 – 1337)
تظل لوحة جيوتو من أبدع وأفضل ما حفظ لنا من أعماله ، وهي موجودة في مدينة بادوا الإيطالية على جدران كنيسة “ارينا تشابل” تلك الكنيسة الصغيرة التي بنيت عام 1305 والتي تضم بين جدرانها ثمانية وثلاثين مشهدا استمدها جيوتو من حياة السيد المسيح والسيدة العذراء .
ويعد جيوتو الفنان الذى ادخل الإنسانية إلى عالم الفن ، فاسبغ عليه الحرارة والواقعية ويعزى إليه الفضل في هذا الانتقال الكبير من نموذج الفن البيزنطى إلى مرحلة فن عصر النهضة. فلقد كان الفن البيزنطي – رغم كونه فنا جليلا وروحانيا- فنا جامدا ولا إنسانيا ، وذا رتابة لا تتغير، حيث كانت الصور ترسم بالفسيفساء او بالفريسك على لوحات شخبية مشتملة على بعدين فقط هما الطول والعرض، فلم يكن لها عمق ، وهكذا بدت الأشخاص في ذلك الفن مسطحة بلا امتلاء أو كيان راسخ. وكان الفنان البيزنطي يسعى نحو اكساب قدسية وشخوصه صفة رمزية، ويعاملهم كأناس غير حقيقيين. كما كانت الكنيسة تفرض عليه قواعد يراعى الالتزام بها في اختيار موضوعه وأسلوب عمله. بل وحتى الألوان التي يستخدمها.
ولقد كان جيوتو أول رسام يرى الحياة أناسا وأشياء حقيقية، وجاءت شخوصه – بالاعتماد على المنظور – ذات حجم ووزن كما هى ذات شكل ولون. وكانت بيوته وأشجاره المرسومة تمثل شيئا واقعيا مقنعا مثل أشخاصه المرسومين . ولقد حطم جيوتو كل قواعد الفن البيزنطي ، وغير اتجاه التصوير برمته ، فكان فنه معنيا بالكائنات البشرية التي تتحرك وتتنفس وتتكلم، كما تأمل وتخاف وتحزن هنا على أرضنا الدنيوية .
وفي لوحته لرحلة السيد المسيح تتبدى مقدرة جيوتو وبراعته في التصميم، وكذلك بساطته في التعبير، وقد أحاط العذراء والطفل بمثلث من الصخور في الخلفية واضعا إياهم داخل إطار في منتصف اللوحة تأكيدا للأهمية. وتجدر الإشارة إلى ذلك الإحساس الدرامي الذى تؤكده النظرة الثابتة في عين العذراء، والوداعة التى تتبدى في الحمار الذى تمتطيه .
*جنتيلي دا فابريانو (1370 تقريبا – 1427)
وهو خير من يمثل الأسلوب الفني الذى ساد قبل عصر النهضة. فكان حلقة وصل بين الفن البيزنطي والأسلوب الفني الطبيعى الجديد.
وفي لوحته عن الرحلة المقدسة نجده لا يزال محتفظا ببعض سمات الفن البينزنطي كالهالات الذهبية حول رءوس الشخصيات المقدسة، والمنظور الهندسي مازال بدائيا وإن كانت الأشخاص قد اكتسبت ليونة الحركة إلى حد ما، والمنظر الطبيعى قد امتلأ بالأرض المزروعة بأشجار الفاكهة والنبات في بانوراما امتزج فيها عنصرا الصحراء والحقول. ويلاحظ عدم الإلمام بتفاصيل المنظر الطبيعى في مصر ، فالمنظر المرسوم هو منظر إيطالي تماما تؤكده تلك المنازل ذات الطراز المعماري السائد في إيطاليا حينذاك .
*مارتين شونجارو (1430 – 1491)
وكان شونجارو من المع الحفارين الألمان وأشهرهم في الفترة السابقة على الحفار الألماني العظيم البرت دورر. وكانت معظم لوحاته ذات موضوعات دينية ، ومع أن أسلوبه كان في مجمله ينتسب إلى الطراز القوطي ، إذ اعتمد على كثرة الزخارف والمنمنمات والتفاصيل المزدحمة، فإنه كان يصمم تكويناته بحرية أكبر، وبإحساس مرهف مما يمثل خطوة انتقال لفن عصر النهضة، ومن سمات أعمال شونجاور تلك العظمة والقوة والخيال الخصب، وقد صور السيدة العذراء وطفلها وكأنهم في غابة تزدحم بشتى أصناف الأشجار والنخيل والنبات . وأنواع الطير والحيوان وحتى الزواحف ، وقد أضفى كل ذلك مسحة شاعرية على اللوحة. أكدتها الملائكة المرفرفة على النخلة التي تحنو وتميل لتحتضن العذراء وطفلها في رحلتها إلى مصر.
*البرت دورر (1471 – 1528)
ذلك الرسام الألماني الشهير والذى كان رغم كونه مصورا جيدا، فإنه بدون منازع يعد واحدا من أبرع الفنانين على مر العصور، وأكثرهم تأثيرا في مجال فن الحفر. ولقد قرنه الدارسون بالفنان الإيطالي نجم عصر النهضة ليوناردو دافنشي ووضعوه في نفس مكانته لتنوع موهبته وغزارة إنتاجه وقوة خياله، وهو رجل عصر نهضة حقيقي. اهتم إلى جانب الفن بالفلسفة والعلوم، فكان واسع المعرفة ، وقد زار إيطاليا أكثر من مرة حيث كان له العديد من المحبين هناك . وتبادل الرسوم مع فنان عصر النهضة رافاييل .
وفي لوحته الهروب إلى مصر – حفر على الخشب – نجد تكوينا محكما، وخطوطا قوية رصينة تبرهن على براعة في الرسم. والأشخاص المرسومة تمتلئ بالقوة والحيوية ، وإن كان تأثير استاذه شونجاور واضحا في المحافظة على المنظر الطبيعى الخلاب.
والحيوانات والطيور التي تمتلئ بها أركان اللوحة، إلا أن لوحة دورر قد جاءت أكثر اكتمالا ، والحركة مرسومة فيها بطريقة أكثر تعبيرا وليونة. ولقد أكدت الدرجات الداكنة في الخلفية الأشخاص المرسومة وأظهرتها رغم كثرة التفاصيل من حولها .
*فيديريكو باروشي (1528 – 1612)
وهو فنان إيطالي يتضح في أسلوبه تأثيرات عصر النهضة حين وصل إلى قمته، ففي اللوحة المنشورة عن الراحة في رحلة الهروب إلى مصر، نجد الحركة المتأثرة بأسلوب مايكل انجلو من ناحية، وتأثيرات ليوناردو دافنشي من ناحية أخرى، كما نجد التمثيل الطبيعى لعناصر المنظر المحيط بالأشخاص ، والتلاعب بعنصر الضوء والظل، وطريقة تجسيم الأشكال وإظهار استدارتها ، وصياغة التفاصيل الدقيقة بمهارة فالغة. كل ذلك أضفى على اللوحة مسحة واقعية وانتقل بها نهائيا من تصنيف الفنون الدينية إلى موضوع يومي.
فالسيد المسيح في جلسته الحرة الطبيعية يبدو ضاحكا لاهيا والقديس يلاطفه، والسيدة العذراء الجالسة في جلسة مريحة تملأ وعاء الماء من الغدير القريب، وهي تبدو مبتسمة سعيدة ، حتى الحمار فهو هناك ينظر برضا مشاركا الجميع في تلك النزهة بين عناصر الطبيعة الخلابة .
*جوستاف دوري (1832 – 1883)
ولد دوري في مدينة ستراسبورج – وبدأ مشواره الفني في باريس حين كان في السادسة عشرة من عمره .
وعمل في مجال الرسوم التوضيحية في المجلات والكتب ولقد رسم الكتاب المقدس في أول طبعة فرنسية عام 1865 ، وفي السنوات القليلة اللاحقة ترجم الكتاب إلى اللغات الأوروبية الأساسية وكذلك إلى اللغة العبرية .
وهذا العمل لجوستاف دوري له أهمية كبرى في تاريخ الفن الأوربي في القرن التاسع عشر، حين ازدهرت في تلك الفترة الرسوم التوضيحية واثبتت أنه يمكن أن يكون لها استقلاليتها عن النصوص المصاحبة لها. ونفس قيمتها أيضا. ولقد انجز دوري لهذا الكتاب مائتين وواحدة وأربعين لوحة مثلت المشاهد المختلفة المستوحاة من قصص الكتاب المقدس .
ولعل الرسم المنشور للوحة الهروب إلى مصر هو أكثر اللوحات اقترابا من المنظر المصري والطبيعة المصرية، فالنهر والأفق الممتد ، والنخيل والتلال الصحراوية ورحابة الفراغ كلها عناصر استطاع دوري حسن تمثيلها، مما يؤكد اتساع معرفته وكذلك قدرته على التخيل، ونلمح في رسم الأشخاص مبالغة في الأحجام وايحاء بالدراما تجسده تلك النظرة الملتاعة للسيدة العذراء ، ووضع القديس الذى يلتفت وراءه في توجس .
الهلال : ديسمبر 1990 .