فى الطائف شهق رسول الله شهقة الحزن وبكى وهو يرى تلك القسوة من أهلها ،وكان عنقود عنب من الفتى عدّاس كفيلا بعودة الأمل فى غد مشرق لدعوته الشريفة ،على أن بكاء النبىصلى الله عليه وسلم لم يكن فى واقعة الطائف فقط ، فقد سالت دموعه الشريفة كثيراً ، فرسولنا معجزته القرآن ولم تكن شيئاً أخر ، أى أنه كان يفرح ويحزن ويحب ويكره ويمشى فى الأسواق ، وبالتالى فإن مشاعره تستحق الكثير من الـتأمل خاصة فى مواقف الرحيل والوداع والفراق .
بكى الرسول الكريم وهو يودع مكة كان يشيع أيام طفولته وذكريات شبابه وأهله وعشيرته ، بكى وهو يشعر بمرارة وغصة عليه وحده أن يتحملها ليجنب اتباعه من المؤمنين برسالته تلك القسوة التى يلاقونها من كفار مكة ، كان يتمنى البقاء مثلما تمنى لعشيرته الإيمان بالله وتصديق رسالته ، بكى وهو يلقى نظرة أخيرة على الارض المقدسة مردداعبارته الشهيرة ( والله لولا أهلك اخرجونى ما خرجت منك أبدا ) .
وكيف لا يبكى وهو يخرج من مكة التى ينتسب إلى أعرق أصولها وفروعها العائلية ( بنو هاشم ) ؟ ولا تتعارض تلك المشاعر الانسانية مع الأهمية الناريخية لهجرته صلى الله عليه وسلم ، نعم كان يدرك أن الله سبحانه وتعالى يدخر له ولأمته كل الخير ، وكان يعرف أن كفار مكة قد قست قلوبهم ولم يعد فى الامكان أن تلين بعد أن حاصروه وصحابته واعلنوا عليهم حربا مدنية وسجلوا مقاطعتهم له فى صحيفة علقوها بجوف مكة ، لكن كل ذلك لا يمنع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أن يحزن وهو يخرج من مكة مجبرا ومشيعا تاريخاً طويلاً من الأحزان والأفراح .
على أن كثير من المفسرين ورواة السير لم يقتربوا من تلك الجوانب الإنسانية فى حياة الرسول وكأنها ليست عواطف ومشاعر انسانية كان الرسول أكثر الناس حساسية تجاهها لما فى طباعه من رقة ونبل وشفافية ، ومثلما تمنى صحابته صلى الله عليه وسلم لو تحملوا عنه عبء الألم والحزن، ظل المسلمون عبر قرون طويلة يتمنون لو كانوا بجانبه ، وها هى السنون والقرون تمضى وعظمته صلى الله عليه وسلم تتجلى لنا فنتمنى لو كنا بجانبه لا لنحمل عنه عبء الحياة وقسوتها أو لنسخر أنفسنا لخدمته ورعايته فقط ، بل لنبكى بدلاً منه حتى لا تتأذى عينيه الشريفتين من الدموع .
ففى مكة التى أُخرج منه مرغماً عاش طفولته وصباه ، وفيها بدأ تأملاته حول الكعبة تلك التى صنعت تاريخ مكة وتاريخ أسرته على نحو خاص ، وفيها ظهر له نور الحق فأنكر الأصنام التى تكدست فى بيت الله بكماء صماء ، لاتملك لنفسها نفعا ولا ضراً ، واستنكر أن يسجد قومه لحجارة يصنعونها بأيديهم .
وفي مكة أيضاً وعلى مشارف الأربعين كان يأوى الشاب محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الى غار حراء متعبدا متاملاً مأخوذاً بحكمة الله فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون ، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التى جعلته بشراً نبياً ، ، ولك أن تتخيل ما تحمله هذه اللحظة من معان يصعب وصفها ، فقد اختاره الله دوناً عن سائر البشرية ليحمل رسالته وتلك مهمة ضخمة جعلت جسده الشريف يرتعد فيطلب من السيدة خديجة الزوجة والأم والأخت أن تدثره ، فيأتى الوحى للمرة الثانية : ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر ، ولربك فاصبر ) .
لذا كان فراق مكة صعباً وليس بالأمر السهل أو العادى .
على أن لحظات الوداع والفراق فى حياة النبى الكريم لم تنته عند مكة ، فقد عاش لحظات أكثر قسوة فى عام الحزن ، ذلك الذى ودع فيه أقرب الناس إلى قلبه وأخلصهم حباً: السيدة خديجة رضى الله عنها وعمه أبوطالب،وفى المدينة كان وداع الابن ،وما أقسى وأصعب وأشد وطأة على البشر من توديع الأبناء فما بالنا بالنبى البشر الرسول الأكثر احساسا والأرق مشاعر ، بكى الرسولوهو يودع ابنه الوجيد إبراهيم الذى رزق به من السيدة مارية المصرية بعد طول انتظار فقد تزوج صلى الله عليه وسلم عشر زوجات بعد رحيل السيدة خديجة ، لكن أرحامهن جميعا أمسكت فما تجود بولد واحد للنبى الذى تخطفّ الموت أبناءه الذكور من السيدة خديجة .
لكن الفرحة التى جاءت على مشارف الستين لم تكتمل ففى عامه الثانى مرض إبراهيم الطفل مرضاً شديداً ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وهو يرى ولده الرضيع يعالج سكرات الموت ، ومع حشرجة الطفل الأخيرة أنحنى الرسول الكريم على جثمان ابنه وقال ” تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا عليك لمحزنون وانا لله وانا إليه راجعون ، وراح يواسى السيدة مارية : إن له مرضعة فى الجنة، ولم تطل أيام الرسول بعد موت إبراهيم فما أهلّ ربيع الأول من السنة التالية حتى لحق بربه صوات ربى وسلامه عليه.