فى مواسم الزواج التى تواكب الأعياد غالبا ،يكون “الخاتم” أول ما يربط الرجل وشريكة حياته ،ومنذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وحتى اليوم مازال الجدل قائما حول “التختم” للرجال والنساء أيضاً،وإن تشددّ شخص فى هذا الأمر وحاول فرض رأيه معتمداً على حديث شريف أو قول مأثور نصفه ب ” الحنبلى “، لكن الحنابلة لم يكونوا على هذا القدر من التشدد الذى أصبح عليه هذا الشخص رغم مرور كل هذه القرون! ،فها هو أحد أبرز أعلامهم وزينة فقهائهم وصاحب “فتح البارى”يؤلف كتابا شيقا وبديعا عن ” الخواتم “، ونظراً لأهمية الكتاب فى قطع الجدل حول قضية ” التختم ” التى مازالت مثارة حتى اليوم بكل أسف فقد قضيتُ سبعة أيام بليالها فى محاولة تلخيصه وتخفيف مفرداته وترتيب آراء الفقهاء التى أوردها ابن رجب .
على قلوبهم
الكتاب ظهر فى القرن الثامن الهجرى ومتوفر على الشبكة العنكبوتية لمن أراد الاستزادة ، ويقال إن العالم والفقيه الجليل ابن رجب عكف على تأليفه بعد واقعة شهيرة حدثت بين رجلين جرى بينهما جدل حول خاتم كان فى أصبع أحدهما، إذ تطور الحوار حتى وصل إلى تكفير لابس الخاتم واستحلال دمه !!، وعندما وقف المتهم أمام القاضى سأله : لماذا حاولت قتله ؟
قال لأنه جاء ببدعة تجعل الرجال فى مقام النساء !، فنظر إليه القاضى وقال فى أسف وألم :”لا خوف على الإسلام إلا من أولئك المتبجحين “، وأمر بجلده أمام المارة ،فكان الناس ينظرون إليه ويشيرون إلى مكان لبس الخواتم بالأصابع ويقولون : ختّم الله على قلوبهم .
وسواء كانت الواقعة حقيقية أم ابتكار الخيال الشعبى العربى،إلا أن العالم الجليل والفقيه الكبير انشغل بالفكرة وانتبه لعدم وجود مرجع فى تلك المسألة مما يجعل الناس تضل بعد الهدى،وكما تصدى لتحقيق الأحاديث الشريفة فى مجلد ضخم تحت عنوان “فتح البارى”،تفرغ للخواتم التى كان الجدل حولها محتدماً بين الفقهاء، فقطع الرجل كل قول وجمع كل تلك الآراء ووضع كتابه “أحكام الخواتم وما يتعلق بها ” أول مؤلف فى التراث الإسلامى يقطع كل قول زائد أو جهول أو ناقص فى الخواتم وحكم لبسها للرجال والنساء ،فقد “تختّمّ” النبى صلى الله عليه وسلم ولا داعى لمناقشة القضية ، ولكن الفراغ جعل الناس تسأل عن نوع هذا الخاتم وفى أى الأصابع يجوز لبسه ، وكم يبلغ ثقل وزنه وحجم عرضه (!!).
أسرار البئر
يبدأ ابن رجب كتابه بباب خاص عن حكم اتخاذ الخاتم ، فيورد أحاديث مسندة وصحيحة تؤكد أن النبى صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً وظل بيده حتى مات فورثه عنه الصديق أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان من بعدهم ، لكن الأخير ـ أى عثمان ـ سقط الخاتم من يده فى بئر فأمر أن ينزحوه ففعلوا ..ولم يجدوه !
ويعلق ابن رجب على تلك الواقعة مؤكداً أن ” خاتم ” الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحمل سراً ،وعندما فقده عثمان خرج عليه الناس ووقعت الفتنة ،وعن أنس بن مالك قال :أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له إنهم لا يقرأون كتابا إلا بخاتم ،فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله ، وقال الحافظ وبعض العلماء : “..كان فى خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شىء مما كان فى خاتم سليمان عليه السلام الذى ذهب مُلكه لمّا فقد خاتمه، وعثمان خرج عليه الخارجون لمّا فقد خاتم النبى صلى الله عليه وسلم ،وكان ذلك مبدأ الفتنة التى أفضت إلى قتله واتصلت إلى آخر الزمان .
أصابع الصبى
هكذا يحسم القضية الأولى ، ويؤكد جواز التختم للرجال اقتداءً بالنبى صلى الله عليه وسلم ، لكنه يجد نفسه أمام عشرات القضايا التى تتفرع عن “الخاتم “، وكلما حسم موقف الفقهاء من جواز التختم بالذهب للرجال ، واجه قضية “حجم” الخاتم و”نوعه”! ،وفى كل صفحة من الكتاب تتجدد الدهشة من حال الفقهاء وتضييع جهدهم فى مسائل مُضحكة فهناك باب كامل بعنوان ” تختم الصبى بالذهب “، وسأنقل لكم سطوراً معدودة من مطولات أوردها ابن رجب نقلاً عن فقهاء العصر الهجرى الرابع والذين لا يختلفون كثيراً عن معظم فقهاء عصرنا فى التركيز مع سفاسف وصغائر الأمور ، يقول ابن رجب :” اختلف أهلُ العلمِ في هذه المسألةِ ، فذهب الأحنافُ والمالكيةُ إلى أن تختمَ الصبي الذكرِ بالذهبِ مكروهٌ ، ونقل ابنُ عبدِ البر – رحمه الله – في ” الاستذكار ” (26/174) الإجماعَ على كراهتهِ فقال : ” وكلهم يكرهونهُ لذكورِ الصبيانِ “،والمعتمدُ عند الشافعيةِ أن الصبي غير البالغِ مثلُ المرأةِ في جوازِ التختمِ بالذهبِ ، وأن للولي تزيينهُ بالحلي من الذهبِ أو الفضةِ ولو في غيرِ عيدٍ “،بينما نص الحنابلةُ على حرمةِ إلباسِ الصبي الذهب ومنه الخاتم .
الذهب والفضة
تتضح معاناة ابن رجب كفقيه حنبلى فاض به الكيل وهو يستعرض أكثر من عشرين رأياُ حول المسألة الواحدة ،ففى باب حكم لبس الخاتم نجد ” الإباحة ” هى الحكم الصحيح ،وكان من الممكن أن تنتهى القضية عند هذا الحد ، ولكن الوصول إلى تلك النتيجة يتطلب جهداً فى فرز آراء المالكية والشافعية والحنابلة ،فالإمام أحمد قال ب” الإباحة “، لكن سعيد بن المسيب اختار ” الاستحباب ” مستنداً إلى مداومة الرسول على لبسه ، ولكن هل كان ” الخاتم من الذهب أم من الحديد أم الفضة ؟!، عند (البخارى) (5417) أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتخذ خاتم ذهب وعند (النسائي) أنه صلى الله عليه وسلم اتخذه ثلاثة أيام فقط فاتخذه الناس فنزعه،فاتخذ فضه فاتخذه الناس ،وعند( مسلم ) أنه رأى رجل عليه خاتم من ذهب فنزعه وطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار،فطرحها الرجل، فقيل له بعد ما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم خذه انتفع به: فقال :لا.
وروى أحمد والنسائى وغيرهما إن الخاتم الحديد حرام على الرجال ويستدلون بأن النبى قال لرجل يضعه فى يده :مالى أجد منك ريح الأصنام،اتخذ خاتما من فضه ولا تزد على مثقال” ،قيل للإمام أحمد: ما السنة فى التختم؟ قال: لم يكن خواتيم القوم إلا فضة.
خواتم الصحابة
هل كان الصحابة يتختمون بعده صلى عليه وسلم ؟ !،من الواضح أن الرجل كان يعرف أن هذا النوع من الجدل سيقع فيه الفقهاء بعد تأكيد نقوش خاتم النبى ومراسلاته للأعاجم ، لذا يمضى ابن رجب مع الصحابة فيقول إن الصديق أبو بكر رضي الله عنه كان يتخّتم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاتمه ، وقيل : كان له خاتم نقشه”نعم القادر الله”،وكذلك عمر رضى الله عنه، تختم بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبى بكر ، وقيل كان له خاتم نقشه” : كفى بالموت واعظا”وكان عثمان يتختم بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين من خلافته ، حتى سقط منه فى بئر، فاتخذ خاتما من فضة نقشه ” آمنت بالذى خلق فسوى”،وكان نقش خاتم على رضى الله عنه ” الله الملك الحق المبين.”،وخاتم ابنه الحسن “:الله أكبر وبه استعنت”،وخاتم أخيه الحسين”: إن الله بالغ أمره”،وكان نقش خاتم معاوية رضى الله عنه ” لكل عمل ثواب” ونقش خاتم ابنه يزيد “: ربنا الله”، وابنه معاوية” إنما الدنيا غرور” ونقش خاتم مروان بن الحكم ” الله ثقتى ورجائى”،ونقش خاتم ابنه عبد الملك” آمنت بالله مخلصا”، وكان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز “:عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله…” وقيل” الوفاء عزيز”، وكان نقش خاتم عبيدة بن الجراح” “ثقتى بالرحمن”،ونقش خاتم حذيفة بن اليمان” الحمد لله”وعلى خاتم الحسن البصرى نُقش “: لا إله إلا الله الملك الحق المبين.”،وعلى خاتم الشافعى ” بالله ثقة “.
جمال ودلال