مثل كل صغار الثمانينات فى قرى مصر كان لدينا ملعب كبير بجوار الجرن ،يصطحبنا الأشقاء الأكبر لنحرس ملابسهم من الكلاب الضالة فليس هناك ما يغرى لسرقتها ، وفى مباريات أشقاءنا نحن أبناء غرب البلد كنا نتحول إلى مشجعين ربما نكسب فريق شرق البلد ، وفى أحيان كثيرة كنا ننضم إلى صغار شرق البلد لتشجيع فريق بلدنا فى مواجهاته الإقليمية مع قرى آخرى ، كل ما يدور حول هذا الوجدان القديم هو محمود الخطيب (بيبو ) ،اللاعبون بملابسهم المتواضعة يحاولون تقليده أمام المرمى وكثير منهم يحمل الاسم “بيبو “، وقد حدث أن ظهرت أرقام بلاستيكية يمكن لصقها على الفانلات بالمكواة ، ورغم صعوبة لصق الرقمين ( الصفر والواحد ) إلا أن ظهور اللاعبين تزينت بالرقم (عشرة ) بتاع الخطيب ، ولم نكن قد شاهدناه إلا فى صور صغيرة تباع مع اللبان الرخيص حتى ظهرت له صورة كبيرة وهو يرتدى الفانلة الحمراء الضيقة ويضع ذراعيه فى وسطه وتحت قدمه كرة قدم مبهجة بمربعات الأبيض والأسود ، نتأمل اللاعب الذى يسيطر على الوجدان والذى كبرنا معه حتى شاهدناه فى تليفزيونات الأبيض والأسود والألوان .
كل ذلك لم يكن سهلاً على جيل القناة الأولى والثانية ، فما بالك بجيل يترعرع فى حضن قرى بعيدة عن الكهرباء أصلاً ؟!، بيوت معدودة للغاية تستطيع اقتناء تليفزيون ، وكان بيتنا واحدا من تلك البيوت بفضل الله ونعمته ومغامرة شقيقى الأكبر للسفر إلى ليبيا آواخر السبعينات ، واستمتعنا بالخطيب وشاهدناه وهو يلوح للجماهير معتزلاً الملاعب ليبقى فى الذاكرة والوجدان ، وبعد أن كبرت وأصبحت رجلاً يعمل فى الصحافة لعب معى القدر معى لعبته الأكبر وأخذتنى أمواج المهنة إلى العمل فى الأهرام الرياضى ، كنتُ غريباً عن الأهرام وأجوائها ولم أكن أعلم أن ” بيبو ” قد ارتدى البدلات الشيك بدلاً من الشورتات والفانلات وجلس على مكتب فاخر تحت أجهزة التكيف بعد هواء الملاعب وسخونة المباريات ، كنتُ جديداً على الأهرام كما قلت ، ولم أكن أعرف تحديداً ماذا يفعل الخطيب الذى صادفته مرات عند الأسانسير ومنهم مرة كان يتحدث إلى الكابتن حسن حمدى ولم أسمع كلمة مما يقال ذلك أن كل حواسى كانت معلقة مع السيجار الضخم بين أصابع الكابتن حسن حمدى ورائحة التبغ المخلوطة بالعطر ورائحة الديتول التى تفوح من جرادل عمال التنظيف ، لا تعرف ماذا حدث معى فى تلك اللحظة ، فها هو الخطيب أمامى وعلى بعد خطوات صغيرة لكننى لا أشعر بشغف الطفولة نحوه ، هناك شىء كبير يقف بين صورته القديمة وبريق وغموض اللحظة .
كنت أتصوره مازال فى الملاعب مدرباً مثلاً أو مديراً فنياً أو أى شىء فى إطار النجيل الأخضر وخطوط التماس ودائرة المنتصف وما إلى ذلك من أوهام طفولية ساذجة.
سأعرف بعد ذلك أن الكابتن محمود الخطيب أصبح رهاناً على الإعلانات ، طعماً للعملاء والزبائن الذين أحبوه فى الملاعب واعتبروه مركز ثقل كبير فى هذا المجال ، وسأعرف أن وكالات الإعلانات فى الأهرام يديرها الكابتن حسن حمدى ، وسأحتفظ بالحاجز النفسى الجديد بينى وبين صاحب رقم (10) ، لكننى مع الثورة التى اجتاحت الأهرام قبل ثورة يناير بسنوات سأضع يدى على قلبى حتى لا أجد اسم ” الخطيب ” بين عشرات من رجال إبراهيم نافع وحسن حمدى المتورطين فى قضايا فساد وسرقات وانحراف ذمم ،كان الموقف فى مؤسسة الأهرام عصيباً ونحن نكتشف حجم السرقات والمصروفات الضخمة التى التهمت ميزانيات الأهرام عبر سنوات ،وسنصاب بالدهشة والعجب من مرتباتهم الشهرية التى لا يمكن مقارنتها بمكافآتنا الهزيلة ،وسينجو ” بيبو ” ولكن النميمة لم ولن تتوقف ، وستمضى عواصف كثيرة باعدت بين صورة الخطيب فى وجدانى وما استجد وطرأ ،
لا أقول أن الرجل مارس عملاً غير شرعى أو أنه أقدم على فعل سىء أو تورط فى فساد لا سامح الله ،لا أقول ذلك ولا يخصنى ولا يعنينى لكننى فقط أفكر كطفل رومانسى حالم عاش سنوات طويلة يحب صورة ويحتفظ بها فى صدره حتى ظهرت أمامه صورة آخرى هى الحقيقية متجسدة أمام الأسانسير وحولها دخان أزرق كثيف ، وهى نفسها التى تطاردنى الآن وأنا أشاهد الخطيب وقد أصبح مرشحاً لمجلس إدارة الأهلى بالبدلة والكرافتة ، وإكراماً لذاكرة الطفولة أتمنى له التوفيق حتى وإن كان ذلك سيزيد الحواجز بين صورة الماضى وأناقة الحاضر .