لوحة المرأة والقط للفنان حامد ندا
كل أعداد مجلة فنون التى تصدرها وزارة الثقافة المصرية تقول إن رئيس تحريرها روائى رفيع المستوى ، أو شاعر عريض الموهبة ، وربما فنانا تشكيليا يجيد ترتيب الألوان وخلطها ،وهذا هو حاتم حافظ فى تجلياته المختلفة منذ قرأت له مجموعته الفاتنة (عسل إسود وبسكويت ) وحتى روايته المدهشة أيضا (قطة تعبر الطريق)،
يخصص حاتم العدد عن فكرة واحدة وهذا وارد فى المهنة وليس جديدا عليها ، لكن كيف تصنع شجرة وارفة بأغصان وأوراق الفكرة ، هذا هو الذى يحتاج كاتبا واسع الرؤية يمتلك ثقافة بصرية إلى جانب كل المعرفة والوعى ، وأظن إن انصراف جمهور الثقافة عن المجلات الثقافية بوجه عام ظلم تجربة حاتم حافظ فى مجلة الفنون التى يعرف رئيس تحريرها ماذا تعنى مجلة للفنون ، فتجد تشكيلة متنوعة وبديعة للسبع فنون حتى من خلال فكرة واحدة ، ولاشك أن فريق العمل وعلى رأسهم مدير التحرير مصطفى طاهر يبذلون جهدا خرافيا لتنفيذ كل هذا الوهج من الأفكار التى تناسب كاتبا فى قامة حاتم حافظ يخلص تمام لمشروعه الروائى وعمله الأكاديمى ويحافظ على نفسه من أمراض الصراعات والصغائر أعاذك الله وإيانا من شيطانها الرجيم .
يقف حاتم حافظ بالنسبة لى على قمة جبل صغير لكنه مرتفع ويخص صاحبه ،ففى القصة والنقد والمسرح وحتى كتابة المقال يختار حاتم حافظ منطقة أعلى قليلاً حين يمارسهم ، وفى مجموعته” بسكويت وعسل أسود “التى كتبتُ عنها حين صدورها ، ستجد قصصه تقف جميعها فوق التبة العالية باللغة والرؤية وروح كاتبها ، قرأتها مرات، ليس فقط لجمالياتها ولكن لكشفها عن طبيعة الإبداع عند حاتم حافظ ، وفى المجموعة قصة واحدة تلخص كل ذلك ، القصة عنوانها ” جامع جورجيت ” وتحكى عن طفولة الراوى مع أقرانه من أطفال الحى، وستكتشف من لغة السرد السهلة الأنيقة كيف تتشابه الأحياء فى شبرا والعباسية والجيزة و كيف تتشابه الشلة فى عفرتة البعض وخوف البعض وندالة الباقين ،أطفال أمامك بين الحادية عشر وفوقها أو تحتها بعام بكل التدفق والحكى والبراءة والخبث فى قصة تدخل من بيت إلى آخر ومن شارع متفرع عن الميدان إلى قبو قديم ودكان بقالة وأضرحة وجامع بعيد عن أماكن اللعب لكن يحلو اللعب بعد الصلاة فى رحابه ، ولن يتعكر الأصدقاء المسيحيين ، سينتظرون بالقرب من الجامع البعيد ليبدأ اللعب ، شوارع تبدأ من حيث يسكن محمود أو رامى ، وآخرى يسكنها البدو بجلافتهم وثقافتهم الصحراوية وقسوة قلب أولادهم الذين يعتبرون أبناء الأحياء الآخرى ” بسكويت ” !
القدر وحده أراد للشلة توفير ساعة على الأقل من المشى إلى الجامع بعد أن تقرر بناء مسجد فى شارع جورجيت ، مسجد سيرحم الأصدقاء من خطب الشيخ العّوام المكررة والتى يعيد ويزيد فيها ، وسيحفظ الصغار سور القرآن الكريم القصيرة وستكبر أفكار وتنو لحى وشوارب لأقران اختاروا الجهاد فى المسجد وفرّ الصبية من هناك إلى براح اللعب والقفز والخوف من المجهول الذى يسكن تحت الأرض .
قصة واحدة تدفعك للتفكير وفتح النوافذ لترى مصائر الصغار فى أحياء بعيدة تماماً رؤية أهل الحكم والسياسة فى بلادنا ، هوامش تصنع المجموع والمنتج النهائى والكتابة هى الوصف التفصيلى للبشر قبل أن يتحولا إلى وحوش كاسرة .. حاتم حافظ كبيراً جداً فى الكتابة .. وكبيراً جداً فى رؤيته للفن .
” بجوار شارع عبد الله شارع الإسطبل ، على ناصيته من ناحية ميدان إسطبل كبير جدا ،بلا أحصنة ، كان يخص أحد الأعيان اذى كان يمتد قصره بامتداد الميدان نفسه .. لا أحد يعرف لماذا لم يتهدم الإسطبل مثلما تهدم القصر ، لكن السكان القدامى تناقلوا قصة عن كلب صاحب القصر الذى كان يجول فى الميدان حزينا باحثا عن صاحبه .. ورغم أننا لم نر الكلب المسكين فإننا تناقلنا حكايته بأسف وألم شديدين “.
فى روايته (كقطة تعبر الطريق) صنع جبلا صغيرا جديدا لنفسه استغرق منه أربع سنوات عمل على هذه الرواية التى فرد فيها عضلاته وابتكر شخصيات من كل بلاد الدنيا تقريبا،”ميشيل”الفنان الفرنساوى ،عالية السورية المدهشة التى تقع فى غرامها حتى وهى تعبر الطريق كقطة صغيرة ،وهناك شاب مصرى غلبان وطيب ، ومن جبروته ـ الكاتب طبعا ـ جايب طفلة عندها خمس سنين تعيش حالة توهان بين المدن والعواصم التى تبتلع مطاراتها كل هذه الشخصيات فى المنافى النفسية والوجودية وليست المنافى المكانية فقط ، جميعنا نلهث وراء شىء قد يعوض غياب أشياء، نبحث عن الضائع ربما نجد أنفسنا ،يغرق ميشيل بكامله فى حب عالية، يهرب من قصته مع زوجته بعد انفصالهما ،يهرب من الفشل والإحباط ويعيش غراميات متعددة لكن “عالية” تأخذه إلى عالمها وآلامها وضياعها وتشتت روحها بين المدن،وأى مدينة بعد سوريا تحتوى عالية ؟!،هربت منها تحت القصف والخراب فلم تجد سوى مطارات باردة وحنين يفتك بضلوعها ويفقدها أى شعور بالأمان،وميشيل عاجزعن تطييب روحها،وعاجزعن الاستمتاع بوجودها فى حياته ،لكنه لا يكف عن اللهاث خلفها .
كل الشخصيات تعبر الطرق كقطط صغيرة تتفادى دهس العجلات الثقيلة، وحاتم حافظ مسيطر نفسه وسطهم ، ورايح جاى بالشخصيات زى السكينة فى الجاتوه ،كان من ممكن أن يسهل على نفسه كل هذا ويضع كل شخصية فى فصل زى العيال بتوع الحضّانة ،لكن الأسطوات الكبار ما يعملوش كده،وهو أسطى كبير،والشغل ده عشان يطلع بالحرفية دى واختيار مفردات كل شخصية وعوالمها النفسية محتاج سنين طويلة الحقيقة،صحيح هو كتب الرواية فى أربع سنين تقريبا بس دول شوية قوى على شغل البازل والأرابيسك،وشوية على هذه المعرفة الواسعة بالأماكن التى تتحرك فيها الشخصيات والمعلومات التى تربط محطات القطارات فى فرنسا وسويسرا،استمتعت برواية ” كقطة تعبر الطريق ” لحاتم حافظ الصادرة عن الدار اللبنانية المصرية وعايز حضرتك تبقى عارف إنى منحاز لكتابة حاتم حافظ ، فإن بالغتُ فى وصف أومدح ،فلا حرج على منحاز.