ر هذه حدوتة غير عادية.. قد تبدو مؤثرة وحزينة بعض الشئ ولكنها حقيقية!..
بدأت الحكاية عند عودتي إلي بيتي الإنجليزي بعد إحدي زياراتي لمصر.. عدت إلي هذا البيت الذي يحلو لأصدقائي الإنجليز أن يسموه “القلعة المصرية” في قلب الريف البريطاني والذي يملك تاريخا خاصا في جنبات عمارته الجورجية التي يزيد عمرها عن ثلاثة مائة عام.
منذ اللحظة الأولي لدخولي البيت وأنا أشعر أن شيئا ماقد حدث في غيابي، أشم رائحة اضطراب وشواهد تدل علي غزو لغريب من نوع خاص، دخل بيتي أثناء سفري بدون علمي وأحدث قلقلة فيه، لا يبدو غازيا معتديا فكل شئ تقريبا في مكانه ولا يبدو أيضا إنه أراد أن يسرق من بيتي شيئا بل إنه زائر أمين.. أنيق جدا.. زارني بدون دعوة ليحدث اضطرابا منظما وفوضي محكمة في أماكن محدودة للغاية كلها بالقرب من فتحات الخروج ونوافذ هذا البيت العتيق.
لماذا دخل هذا الغريب إذا كان كل همه هو الخروج؟ لماذا أتي إلي هنا إذا كان يبغي الهروب ولا يريد البقاء؟ هل دخل صدفة بدون أن يقصد وبالتالي لا أستطيع أن ألومه علي هذا القلق الذي اعتراني وأحدثه في حياتي؟.. قلقي بدأ يتزايد وأنا أبحث عن هذا الزائر.. لاتوجد مظاهر اضطراب إلا بجانب النوافذ الجورجية المتناسقة والتي يسكن حوافها وجوانبها وقطع الأثاث القريبة منها مجموعتي المصرية من أعمال الفخار والخزف، تلك المجموعة التي قضيت أعواما وأعواما في تجميعها.
هناك عند هذا الشباك أطباق خزفية من تصميم فنانة انجليزية عليها صور سيدات عصر قديم تعبد المصري يوما في محرابهن.. هنا “ايزيس” وبجوارها الأخت “تفتيس” مع رمزي الجمال المتناسب.. “حتحور وماعت” (2)، (3).
أما حافة الشباك الآخر فهو سكن للعائلة الأخناتونية من بيت البورسلين الانجليزي المعروف “ودج وود”.. هاهو أخناتون بين الأم “تي” والزوجة “نفرتيتي”! (4)
ومن شباك لآخر انتقل بسرعة وقد أصابني الذعر.. فكل المجموعة تقريبا قد تدحرجت من أماكنها ومنها ما وقع بالفعل علي سطح أقرب قطعة أثاث أو حتي علي الأرض، وبينما تتسارع دقات قلبي في داخلي ويزيد جفاف حلقي أخذت ألتقط الواحدة أثر الأخري.. ياللعجب لم ينكسر شيئ منها!..
أعدت خزفياتي الغالية علي نفسي إلي أماكنها وأنا غير قادرة علي تصديق أو استيعاب ماحدث.. شعور غريب انتابني يشبه كثيرا هذا الشعور الذي يجتاح الإنسان عندما يشعر أنه هرب بأعجوبة من موت كان يبدو له أنه لا مفر منه، وأخذت ألتقط أنفاسي بعد التقاط هؤلاء الأصدقاء وكأنهم هم الآخرون قد نجوا من الموت بأعجوبة.. وصعدت درجات السلم الداخلي في البيت.. أقل قلقا ولكن أكثر تحيرا..
وفي غرفة النوم وجدت إيشاربي الحريري الذي اشتريته من المتحف البريطاني ذا اللونين الأبيض والأسود والذي طبع عليه حجر رشيد (5) ملقي علي سجادة الغرفة.. نعم لقد أدركت بعد سفري أني قد نسيته علي السرير وكنت حزينة لأنني أحب ارتداءه وأتفاءل به.. كيف بالله تحرك هذاالإيشارب من السرير إلي الأرض؟ هل في البيت أشباح وعفاريت كما يقول لي الجيران في القرية؟..
وأنحنيت لألتقطه من الأرض.. لكي أجد الزائر كامنا تحته.. “عصفور ميت”، مات دون أن يكسر لي شيئا واحدا من أشيائي المصرية وأختار ايشاربي الذي يحمل علامات ورموز هذه اللغة غطاء له.. بل كفنا له، ومهما اسعفتني الكلمات لايمكن أن أنقل ماشعرت به في تلك اللحظة.. فلقد تسمرت في مكاني حتي البكاء لم أقدر عليه، وجفة حزن وشؤم ملأت كياني ولم أكن أعرف وقتها أن العصفور الميت “زنت” كان فعل شؤم كبير للمصريين الأوائل وهذا الأمر يتعدي بالطبع حدود التاريخ ورموزه فهو إن دل علي شئ يدل علي قدر إنسانية المصري القديم في هذا الوقت فموقف كهذا لابد وأن يحرك أحساس أي إنسان في أي زمن كان.
والغريب أن “يتكفن” هذا العصفور بنفس الحروف التي أسماها العرب لغة “الطيور” فعدد الطيور التي استخدمها المصري في لغته في هذا الوقت كدلالات حروف كثيرة.. لدرجة أن أحد أوتي يحلو له التريقة علي من فرط اهتمامي وحبي لهذا الماضي بآثاره المترامية في أنحاء البلاد فيقول لي “بعد كل مادرسته في حياتك كل مايشغلك الآن مجرد “عصافير منقوشة في حجر”! وليس هو الوحيد الذي يحمل هذا الشعور فهناك آخرون وآخرون يعتبرون هذا التاريخ وتلك اللغة مجرد “عصافير في حجر”..
ولكن بالنسبة للمصريين الأوائل كانت حروف لغة قديمة لها قدسيتها، ذات معان مركبة حفرت في الصخر من أجل أن تبقي، ولم تكن العصافير التي تحويها هذه اللغة مجرد “أشكال” و “صور” لا معني لها بل إنها كانت تحمل معاني تفوق بكثير صور الطير المباشر، كانت الكتابة للمصري القديم تمثل عملا فنيا إبداعيا تطور تدريجيا في تعقيده وروقية فهي كما يصفها “إيريك هورننج” ابنج الفن (6) وكانت مخطوطات القبور – كما يطلق عليها عالم المصريات الألماني “أسمان” “مدرسة الأدب الأولي” (7).
قال المصري.. “لغتنا ليست مجرد كلمات ولذلك كان لابد لها أن تأخذ شكلا يليق بقوتها، كان لابد أن تكون حروفها علي هيئة طيور لتكون الوسيط بين معرفة الأرض والسماء فالطيور هي التي تقدر علي التحليق عاليا في السماء!”.
وتقول الأطروحة الهرمزية علي لسان “تحوت” : “نحن لا نستخدم مجرد كلمات ولكنها نغمات تعلوا في قوتها”.. فشخصية وموسيقية الصوت في الكلمة ومخارج اللفظ في اللغة المصرية تتجسد فيها طاقة الأشيا (8).
“تحوت” أو “تحوتي” هو مخترع الحروف والكلمات وحامي المفكرين والكتاب ومنظم السنين والشهور والأيام… ولاشك أن ارتباط نور الساعات الممثل في قيمة الوقت بننور العقل أو التنوير يشير إلي درجة عالية من الرقي الفكري.. ألم يقل المصري القديم “إن اللحظة التي يري فيها الإنسان الشمس (والمقصود بها اللحظة التي يتعلم فيها الإنسان أو يعلم فيها إنسانا آخر) أكثر قيمة من عمر طويل لا نهاية له! ومن هو تحوت (9) غير رب قلعة العلم (هيرموبولس) في الأشمونين في صعيد مصر.. هذا المكان الذي كان يقصده الباحث عن العلم في مصر القديمة ليروي ظمأه للمعرفة والذي كان يمارس فيه المصري القديم طقوس تقديس الكاتب والكتاب في احتفال كبير كل عام يسمي “عيد الحقيقة”!..
“ليتك ياتحوت تأخذني إلي مدينتك في الأشمونين.. وتدخلني معبدك.. معبد الصدق.. وتحرس فمي عند الكلام فلا ينطق لساني إلا بالحق.. إنني للعلم عطشان.. كالباحث عن المياه في الصحراء..” وبالطبع ليس غريبا علي مخترع لغة الطيور أن يكون أهم رموزه علي الإطلاق هو طائر “الأيبس” الذي يشبه أبو قردان والذييعني بالهيروغليفية “صاحب النور”.
ولنعد مرة أخري لحدوتة العصفور.. فإن كان العصفور الميت عند المصريين يمثل فألا سيئا للغاية فالعصفور الطائر الذي تملأه الحياة هو علي العكس تمما فهو رمز قوي للحياة لأنه رمز الروح الطليقة.
وفي واحدة من جداريات معبد “أبيدوس” نري ايزيس – سيدة مصر دائما – في صورة طائر كالعصفور يضرب بجناحيه فوق جسد “أوزرريس” الميت.. عصفور يضرب بجناحين رقيقين في الهواء لتنتعش رئتا الميت “أوزوريس” كي يدخل خلاياه الهواء الذي حرم منه ويستعيد معه الحياة.. ولو حتي للحظات يتعانق فيها الحبيبان ايزيس وأوزوريس مرة أخري ويرقصان معا رقصة هي الوداع.. رقصة حب أزلية فإن رحل أوزوريس مرة أخري عنها يكون قد ترك في أحشائها بذرة البقاء، إنها حكاية”الهواء والهوي”.. حكاية عشق العشق والحياة، ينقل تفاصيل وقائعها ابتهال لأوزوريس منقوش علي شاهد حجري في اللوفر (10)..
إليك يااسم الخلود
وسيد الملوك
يامن نراه في اختفائه
فيأشياء الوجود
ياخضرة الصحراء
وفجر عتمة القلوب
يامن تتمشي بين النجوم
فتزيدها نورا ولمعانا
روحك النبيلة ترفرف
هناك في أبيدوس
حيث يوجد عرش الحياة
فوق قطعة أرض مقدسة
نحاول أننحبها كما أحببتها
نهرها.. وطيور سماواتها
وورودها وأشجارها
وكل ماينطق بالحياة…
هل بالغت ياتري في وصف أبعاد الحزن في هذه الحدوتة ومدي وقعها في نفسي وهل قرأت كثيرا في رموز هذا الحدث ودلالته؟
ولكن كل ماأعرفه أن إحساسي وقتها كان أكبر بكثير، وربما كانت لأمتهاني بالتحليل النفسي أثر علي عالمي الصغير جعلني أبحث عن قراءات نفسية أحاول إسقاطها علي مشكلات أكبر وأعمق تخص وطنا بحاله، إنما حكاية عصفور.. مجرد عصفور، “روح طليقة” ماتت أو بدا لي وقتها أنها ماتت.. فالروح الطليقة تبعا لفلسفة هذا العصر أبدا لا تموت!..
رحل العصفور بعد أن ترك لي قبل رحيله أساليب البقاء في حروف عصفورية…
أنا العصفور (11)
أليف الخضرة والمية
أنا المولود.. علي كفوف الجناينية
باقول تغاريد
نغمها جديد علي السامعين
بمعني قريب
ومعني بعيد
وتورية
طويت الجو بجناحي
وصحيت في الهوا جراحي
وأنا طاير
ورحت بعيد مع النسمة
وشفت كنير من القسمة
ولما الدنيا تبكي لي
باقول ومسيرها مبتسمة…
الهوامش
1 – العمارةالجورجية نوع من الطرز المعمارية في انجلترا والتي تنسب إلي العصر الذي حكم فيه الملك جورج كما تنسب طرز أخري إلي أسماء ملوك حكموا في فترات أخري.
2 – “إيزيس وأوزوريس وست ونفتيس” هم أفراد الأسرة الأؤلي في التاريخ – تعرف “ايزيس” بنوع التاج الذي ترتديه وهو تاج “العرش” أما “نفتيس” تسمي بست الدار أو البيت وتاجها يأخذ رمز “البيت”.
3 – “حتحور” هي ربة الحب والجمال والخصوبة ويرمز لها بالبقرة وتاجها عبارة عن “قرنين يحتضنان قرص الشمس” أما “ماعت” فهي ربة العدل وتاجها علي هيئة “ريشة نعام”.
4 – “تي” هي زوجة أمنوفيس الثالث وأم أمنوفيس الرابع “أخناتون” – لعبت دورا هاما في التاريخ المصري القديم، وكان لها تأير كبير علي أبنها اخناتون وعلي التوجه العقائدي الذي اتخذه، أما “نفرتيتي” فهي زوجة الجميلة وتمثال رأسها الشهير يعتبر من أهم كنوز العالم الجمالية وهي المحفوظ الآن في المتحف المصري في برلين.
5 – اكتشف حجر رشيد في مدينة رشيد في مصر أثناء الحملة الفرنسية (1799) وتمكن شامبليون من خلال معرفته باللغة اليونانية من تفسير اللغة الهيروغليفية المنقوشة عليه (الهيروغليفية تعني الحروف المقدسة)، واعتمد في ذلك علي وجود اسم متكرر هو اسم “بطلميوس” الذي عرف أنه لابد أن يكون اسما لوجود حروف داخل خرطوش، فقارن شكل الحرف اليوناني بالهيروغليفي، وكانت هذه هي الخطوة الأولي في حل لغز اللغة المصرية القديمة. ولقد مرت اللغة الهيروغليفية بمراحل تطور من أجل تبسيطها وتسهيل كتابتها علي الإنسان العادي ومن هنا جاءت “الهيراطيقية” وهي تشبه خط الرقعة في العربية وانتشر استخدامها في كتاب البرديات، أما الهيروغليفية الأولي فقد أصبحت مقصورة علي الكتابة في المعابد أو البحث في الصخور ثم تطورت اللغة أكثر وأكثر وظهر شكل آخر يسمي “الديموطيقية” أي اللغة العامية أو الشعبية ومنها جاءت اللغة القبطية بعد أن دخل إليها بعض من الحروف اليونانية. وترجع الأبجدية اليونانية نفسها إلي اللغة الفينيقية التي استمدت أصولها من الهيروغليفية بعد ماانتقلت إليهم عن طريق الهكسوس ولهذا توحد أصول هيروغليفية غير قليلة في اللغة العربية التي يستخدمها اليوم. وبعد اكتشاف حجر رشيد حاولت كل من فرنسا وبريطانيا الاحتفاظ به، ونجحت بريطانيا في النهاية، وهو محفوظ الأن في المتحف البريطاني في لندن ويعد من أهم كنوزه.
6 – أفكار في صور – إيريك هورننج – أنظر المراجع.
7 – عبارة مأخوذة عن لسان العالم الألماني “أسمان” – أنظر المراجع.
8 – الأطروحة الهرمزية – انظر المراجع.
9 – هرمز المصري – أطلق اليونانيون علي “تحوت” اسم هرمز وهو المرادف لشخص تحوت في اليونان ولهذا سميت منطقة الأشمونين وتونة الجبل بمدينة هرمز (هرموبولس).
10 – ابتهالية إلي أوزوريس – شاهد “أمنموس” في اللوفر – ترجمت من الانجليزية (المؤلفة).
11 – من أشعار أحمد فؤاد نجم.
من كتاب لماذا فقد حورس عينه
ميرفت الناصر
واقرأ أيضًا : قصة الفتاة التى كانت وراء تأليف كتاب طوق الحمامة