وبالعودة إلى غنوة بودعك التى مازالت شغالة وتثير شجنا بلا مبرر حتى لأولئك الذين ليس فى حياتهم وداع درامى على هذا النحو! ،فإننا لم نسمع عن رجل لطم الخدود وشق الجيوب بلحن يرقص بكاءً ونحيبا إلا على لسان “بليغ حمدى” فى تلك الغنوة التى كتبها بنفسه فى أسوأ أيام حياته،صحيح أن الصوت لوردة ،لكن الباكى الشاكى المتألم هو بليغ الذى عاش ومات وهو يحب وردة،ولا أظنها عشقت رجلا بعده،بليغ فى غربته التى أُجبر عليها بعد اتهامات خسيسة وحملة رخيصة صورته كحارس للرذيلة عقب انتحار سميرة مليان فى شقته،كان أكثر رقة وتصالحا مع ذاته ،ففى الغربة والأزمات الكبرى نعرف من أحبنا بصدق ومن باع لنا الغرام وعبأه فى أكياس ومضى وفى يديه سنوات من أعمارنا ،ويبدو أن الحنين إلى وردة أكل روحه حين جاء عيد ميلاده وتذكره الجميع بما فيهم الوضعاء والحقراء ..ونسيته وردة!.
بليغ يأكل من يد وردة في البروفات.
تبكى وردة فى البروفات التى كُتب لبليغ أن يحضرها بعد عودته من الغربة،لكن الدموع تسقط من عيون بليغ فى ليلة عيد ميلاده :
كتبت لك زي الليلة دى في يوم ميلادى
غنوة لك تفكرك بموعدك
أسمعك غنوتك:
سنة حلوة يا سعيد ودموعي في العيد
ده انا عمري ما نسيت لك في الغربة مواعيد.
اليوم ده بكل أسى في ناس ياما بتتمناه، بتتمناه
يرضيك كده منك لله
عجبك كده منك الله
وهى الغنوة الأطول فى كل أغانى وردة ،فقد جعلها بليغ مثل دائرة تبدأ بالقرار الذى يتخذه رجل مهزوم بدموعه ،لكن قلبه لا يطاوعه فمازال يريد سماع صوتها باشتياق ثم يعود ويتمسك بالوداع الباكى!،وتمضى الغنوة لتصف مشاعر المحب فى تلك الليلة التى أتخذ فيها قرار الوداع، فأحيانا نترك الأبواب مواربة بلا قرار نهائى حتى تحدث هفوة بسيطة فنغلق الباب تماما أو نفتحه تماما ،وغالبا يتم الإغلاق لأن الهفوة البسيطة كانت جديرة بأن تقول لك : انتبه يا حيوان .. هذه لا تستحق بقاء الباب مواربا،وهذا ما فعل بليغ فى ليلة عيد ميلاده القاسية الباردة ليكتب مرثية تليق بحبه الفالت الملتهب المجنون، هفوة بسيطة جعلت المحب يودع وداعا يليق به
بودعك، بودعك
بشوق للمسة من يدك
لمسة وداع ما أبخلك
بكرهك لأ بعشقك، بعشقك، بعشقك
بودعك، بودعك
ودع مُحباً ودعك.
المكتوب على الشريط ـ كان اسمه شريط ولم يخترعوا كلمة ألبوم وقتها ـ هو اسم الشاعر (منصور الشادى) كمؤلف للأغنية،والحقيقة أن هذه معلومة غير مكتملة لأن الذى كتب ولحن هو بليغ حمدى ، لكنه كان يرفض وضع اسمه كمؤلف للأغانى، فمن أين جاء اسم ؟ لم أجد جوابا أثق فيه إلا عند الناقد والصديقى الكاتب أحمد السماحى الذى كان صديقا مقربا من السيدة وردة وسألها عن تلك القصة فقالت إن بليغ لم يكتب هذه الغنوة فقط لكنه كتب عشرات كان ينسبها لأصدقائه الشعراء لأنه يخشى استفزاز زملاءه من الملحنين الذين كانوا يحقدون على نجوميته فى السبعينات تحديدا، أحمد السماحى لم يكتف بشهادة وردة لكنه سأل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى عن الأغانى التى كتبها بليغ ،فأجاب الأبنودى إجابة عبقرية (أى أغنية تجد في مفرداتها ” الهوى والليل والسفر والزمن” فهى من تأليف ” بليغ حمدي” أو على الأقل 60% منها من تأليفه، وأنا نفسي قرأت تصريح لبليغ حمدي فى إحدى المجلات الفنية عن أغنية إنتهى من كتاباتها، وتلحينها، وذكر إسم الأغنية، وبعد ذلك ظهرت هذه الأغنية بإسم شاعر عربي كبير)، كل ما كان يفعله بليغ ـ إذن ـ بعد كتابة الأغنية أن يرسلها إلى شاعر من المقربين إليه ليراجعها ويضيف ويحذف ،وهذا ما حدث مع رائعة (بودعك).
ومعظم بكائيات الوداع نسائية بامتياز،لذلك تربع عبد المطلب فى قلب المهزومين بكلمات فتحى قورة فى (ودع هواك)،فأصبح صوتهم الأجش القوى الهادر وهو يقرر الحقيقة النهائية فى قصة الحب التى تنتهى ( عمر اللى راح ما هيرجع تانى)، ولولا وجود أبو وديع ،المطرب الاستثنائى جورج وسوف ـ متعه الله بالصحة ـ لانتهت كل بكائيات الرجال من قسوة النساء،فتقريبا هو الصوت الرجالى جدًا الذى لا يخجل من الاعتراف بالهزيمة فى معارك الحب (الشريفة ) كما وصفها محمود درويش فى قصيدته (فرحا بشىء ما خفى):
أعطنا يا حب ،فيضك كله لنخوض
حرب العاطفيين الشريفة
فالمناخ ملائم
والشمس تشحذ فى الصباح سلاحنا
يا حب .. لاهدف لنا إلا الهزيمة فى
حروبك ..فانتصر أنت
واسمع مديحك من ضحاياك).
كامل الشناوى رحمه الله، كان كتلة من المشاعر والحب والعاطفة الجياشة،وعندما بكى وهو يكتب (لا تكذبى) رفع سماعة التليفون وهو فى مكتب مصطفى أمين وطلب رقم نجاة ليسمعها القصيدة التى قيل انه كتبها عنها وفيها ،فما كان منها إلا أن طلبت أن تغنيها!،وقد كان فأصبح أنين الشناوى فى حنجرة نجاة التى أحبها قبل أن يرى ما رأى ونفخ فيه من خياله .. ربما،وعندما سألوا أحمد رامى عن أجمل الكلمات التى كتبها ،وكان السؤال عن مائة قصيدة ويزيد ،تردد قليلا وهو يفكر فى حديقة الكلمات التى أبدعها ،وأجاب:
غصبت روحى على الهجران
وانت هواك يجرى فى دمى
وقلت افكر فى النسيان
لما بقى النسيان همى
وهو بالفعل من أجمل وأروع أبيات الشعر التى كتبها رامى لكن التى راحت تبكى بها هى السيدة (أم كلثوم) وجلس رامى فى الصفوف الأولى يبكى وحيدا، فيما يصفق الناس للجلاد الذى كان يضرب جسد العاشق بكرباج الغياب والتمنع والهجران والبعد والملاوعة ،ثم يرق ويحن ويواعد الحبيب ،وسرعان ما يغيب ليعود يجدد الحب بعد الفؤاد ما ارتاح، والناس ،كل الناس تصفق وتتعاطف مع الصوت النسائى الذى يصدح بكلمات عاشق مجهول يحلس يستمع فتظمئن روحه.
اقرأ ايضًا:
وبكى البيانو : وعدتنى أن أموت بين ذراعيها .. وخذلتنى!
الزمن الوجودى فى أغانى عبد الباسط حمودة!
ديستوبيا كمان وكمان….عندما نهش كمال الشناوي ورغدة لحم بليغ “حيا”!