لاشك عندى أنك تعذبت كثيراً بسبب اسمك فى مكاتب شئون الطلبة وشبابيك الأحوال المدنية ،فقد عانيت معاناتك مع كل موظفى الدولة فى كتابة اسم القرية التى انتمى إليها بشكل صحيح فكانت (برطباط) تتحول إلى بورتبات!،وأحيانا بورطباط ،فنعود للشبابيك ونصحح،ولكن هاهو الاسم قد صعد بك إلى منصب وزير ثقافة مصر،وأعدك أن أحداً لن يخطىء فى كتابته أو يطلب إعادة ذكره بصوت أعلى بعد اليوم،حمد الله على سلامتك،وهزرنا كتير وجاء وقت الجد،فأنت فى مهمة صعبة جدا أعانك الله عليها بشرط أن تسمع كلامى وتبدأ فى نسف الصحفيين العاملين بالوزارة،فهؤلاء سيكتبون أخبار تحركات (معاليكم) فى الأقاليم وتفضل معاليكم بافتتاح معرض الحرف اليدوية! ولن يبحثوا عن شىء أكثر من سفرية وشنطة فى المؤتمر،أما الإصلاح وكشف فساد يعينك فى مهمتك فلا تنتظر سوى كله تمام بفضل وجود معاليك،هذه واحدة أما الثانية فهى أنك يا سيدى الفاضل ستجد برنامجا مرصوصا يتضمن افتتاحات ديكورية وندوات واحتفالات سنوية ،ونصيحة منى أن توقف كل هذه النشاطات الفارغة وتصنع مشروعا قوميا لإعادة الاعتبار للفنون الشعبية المصرية، دعك من مشروعات التنوير وندوات التنوير الفارغة والمكلمات الفارغة وأبدأ بمشروع قومى كبير يعيد لمصر وجهها المشرق والذى لن تجد إشراقه إلا فى فنون الفلاحين والصيادين والفواعلية،ولديك ميراثا عظيما تركه زكريا الحجاوى وكنوز تركها محمود رضا وفرقة الفنون الشعبية،ولديك مئات من أساتذة الفلكلور فى الوزارة وخارجها،فمازالت كل محافظة مصرية تحتفظ بفنونها الغنائية والاستعراضية ومازالت فرق الفنون الشعبية موجودة فى قصور الثقافة ،لكنها مجرد ديكور لا يظهر إلا فى استقبال السادة المسؤلين إلى المحافظة،وبعدها تنتهى الفنون الشعبية وتدخل المخازن!،ولا يمكن صناعة هوية مصرية وسط تلك الأعاصير التى يتقافز فيها الصغار إلا بهؤلاء القادرين على خلق جمهور كبير لن يجد فى الفن حراماً ولن يتعاطى التنوير من مجموعة تكوين،لقد فشلنا وسنفشل دائماً وأبداً فى إعادة هيكلة وزارة الثقافة، ومهما بذل القائمون عليها من جهود فستبقى مهلهلة ضائعة بائسة رغم إنها ثروتنا الوحيدة والأغلى بين ثروات البلاد ، لذا يجب التعامل معها باعتبارها وزارة سيادية كما الدفاع والداخلية ،وأصبح وقف نشاطها التقليدى والروتينى ضرورة لا مناص منها كى تتوجه كل جهودها وأموالها لصحوة ” شاملة ” فى قصور الثقافة تستنهض الهمم وتعيد أمجاد مصر ،وتنفض الغبار عن فرق الفنون الشعبية فى كل قرى مصر لتجديد الهوية المصرية وتنشيط الذاكرة بموروثنا الغنائى والثقافى الذى داسته جحافل الجماعات الإسلامية من منتصف السبعينات وها هو قائد فيلق البعير يدهسها هو الآخر!
الثقافة اليوم هى السلاح الفعال القادر على تغيير حالة الاكتئاب والملل التى يعيشها معظم المصريين خاصة فى الأقاليم التى تتألم كل صباح على مواهب أولادها التى تضيع بفضل حالة الخراب التى تغرق فيها بيوت وقصور الثقافة،وتحتاج الثقافة قراراً جريئاً كى يتغير المجرى الثقافى ليبدأ من الأطراف ويصب فى القاهرة صانعاً موجات جديدة كما صنعت فترة الستينات والخمسينات تيارات من الفنون مازالت تسكن وجداننا حتى اليوم فليس هناك خلاص لمصر من فقرها الثقافى والمعرفى سوى الثقافة والفنون ، فقد انفرط العقد ولا طريق لإعادته إلا بالغناء .
القضية ليست فى المسؤل عن الثقافة، لكنها فى قادة الفكر الذين تركوا السلاح ومزقوا الخرائط وتفرغوا لمعارك الجوائز والسفريات وتعاملوا مع وزارة الثقافة باعتبارها ملكاً لمن يتوزر عليها! فى حين استسلم فريق آخر من المثقفين لجبروت المؤسسة وقواعدها وخضعوا للهيكل الوظيفى وضاعت كل التجارب السابقة فى توعية الناس ونقل الفنون والعلوم إليهم ،وتضاربت مهام هيئات الوزارة،لكن مصر اليوم تحتاج مشروعا قومياً للثقافة والمعرفة تحتاج تكسيراً وتحطيماً للروتين والجمود بين الوزارات والقطاعات،وما كانت “لثقافة الجماهيرية ” إلا فكرة ابتكرها الكاتب والمفكر”أحمد أمين” من خلال مشروع الجامعة الشعبية التى ظهرت فى الأربعينات ؟! كان الرجل مديراً للثقافة فى وزارة المعارف (التعليم )وفكر فى تثقيف وتوعية الفلاحين والعمال والحرفيين فى المحافظات ،وتطورت الفكرة لتصبح جامعة شعبية ثم تطورت أكثر فكانت قصوراً للثقافة فى القرى والنجوع تابعة لوزارة الإرشاد بقيادة فتحى رضوان ثم ثروت عكاشة .
عشرات من مثقفى مصر الكبار يعرفون أوجاع الوزارة أكثر منى ويمكنك التواصل مع المخلصين منهم،فليس فى ذلك عيب ولا حرج واكتساب خبرات كبيرة كتلك التى يتمتع مثقف رفيع المستوى مثل عماد أبو غازى،وغيره عشرات يمتلكون خبرات خاصة فى مجالات التراث والفلكلوروتوصيل المعرفة إلى الأطراف البعيدة،ويمكننا أن نفعلها لو أوقفنا نشاطات مجانية وجعلنا الميزانية لصالح مشروع ثقافى كبير ينهض بالأقاليم وتتحصن مصر ثقافياً بفلاحيها وعمالها وجنودها ونغلق أبواب الجحيم أمام خفافيش الظلام الصغيرة التى تتربى كل يوم فى زوايا التطرف لتكبر فاقدة معنى “المصرية “وقيمة الانتماء لوطن بحجم ومكانة مصر.
إن لم يروق لك هذا الكلام ،فيمكنك أن تلقى به إلى البحر،لكننى اتعشم فى مستشفى للأدباء ،فقد فعلها الأستاذ أشرف زكى وحفظ كرامة عشرات من فنانى مصر بدار للرعاية،والأدباء والكتاب فى بلادنا غرباء يا سيادة الوزير الشاب،ليس لأن معظمهم قادم من القرى البعيدة ولكن لأن حرفة ومهنة الكتابة نفسها غريبة!فلك أن تتخيل رجلاً يسكن فى الشقة السابعة بين ست شقق آخرى أصحابها موظفون ومهندسون وأطباء بينما هو ” كاتب”!، فلا يعرف جيرانه إن كانت تلك حرفة أم هواية أم جنون!، وهؤلاء المجانين متناثرون فى الأرض بين الحوارى الصغيرة والشقق الضيقة ، لا يريدون شيئاً سوى وطناً كريماً يكتبون عنه ويحلمون معه ويضيئون الطريق أمام أجيال قادمة ببعض ال روايات أو القصص أو الخواطر ثقافية ،وعندما يمرض أحدهم لا يدرى به أحد سوى مجموعة من الكتاب أو المجانين الغلابة مثله،فلا نجد له مكاناً يستقبله لحين تشخيص حالته ، فنتوه بين عيادات فقيرة وأطباء متواضعون، وقد يموت بين أحضاننا كاتب شاب أو روائية صغيرة كما مات غيرهما من شعراء وروائيين ومفكرين عبر سنوات طويلة مضت ،ويتكرر الموت بشكل درامى ونسكب الدمع وننتظر مريضاً جديداً أنهكت الحياة قلبه أو هتك المرض كبده أو نهش السرطان جسده فلا نجد مستشفى تليق بأدباء مصر وكتابها ومترجميها وعلمائها ومفكريها بعيداً عن سلطة اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة وكل قطاعات الروتين والإجراءات التى يموت الناس قبل إنهاء جزء منها، وإن كان هناك مطلب للمثففين فلن يكون أهم من حمايتهم وتأمينهم من مخاوف المرض من خلال مستشفى يحمل اسمهم وتتتزين حوائطه ومداخله وغرفه بأسماء عظماء مصر فى الفنون والآداب من طه حسين إلى يوسف إدريس ونجيب محفوظ .. وأهى أحلام وأمنيات ساذجة ما ذكرتها إلا لمّا وجدت من ترحيب من مثقفين يعرفونك قبل المنصب.
اقرأ ايضًا:
انت تحمل على عاتقك قضية و حلم تحلم به فئات و قطاعات عديدة تتسول العناية و الرعايا على أبواب صغار المسؤلين او أمام خلايا التأمين الصحى المهترئة
و لا أخفيك سرا يا صديقى إن القطاع الطبى الذى تتمنى إن يقوم برعايتك لديه نفس القضية
هل تتخيل أن هناك كثير من الأطباء يعانون من تسول الرعايا الطبية على أبواب التأمين الصحى الذى هم أنفسهم يعملون به
هل تتخيل إن احد مطالب الأطباء هو مكان للعلاج و الرعايا يليق بهم كمقدمى خدمة هم فى الأصل فى أشد الاحتياج اليها