لم أندم في حياتي على ضياع سنوات طويلة، دون التعرف إلى إنسانٍ قط، قدر ندمي تجاه الأستاذ محمود عرفات، الذي تعرفت إليه متأخرًا.
إنسانيًا؛ هو ابن مدينة بيلا (كفر الشيخ) تخرج في كلية التجارة، جامعة القاهرة عام ١٩٦٩.
رجل شديد الحياء، يبادلك ودًا بودٍ، طالما عرينه لم يُقتحم، والمسافة الخضراء المسموح بها لم تُنتَهَك.
محارب قديم؛ قضى من عمره خمس سنوات (١٩٦٩-١٩٧٥) في صفوف الجيش المصري كضابط احتياط، مشاركًا في حرب الاستنزاف ثم انتصارات أكتوبر المجيدة.
صفاته العسكرية تسيطر عليه؛ فهو شديد الانضباط، يلتزم بالمواعيد التزامًا شديدًا، يكره أن تُغير ما اتفق عليه معك، أو تُعدل شيئًا دون سابق نقاش. لكنه لين طيب رقيق، ابن بلد، صاحب واجب، يعرف الأصول، تجده في الزمان والمكان الذي تتوقعه وتنتظر حضوره.
الأجمل؛ أنه قليل الكلام، كثيرًا ما يبتسم، يبتسم فقط، لكنه صاحب أجمل ضحكة، تستشعر صفاءها، لأنها تنبع من قلبه، دون مجاملة، ومن غير تكلف، مع بريق في العينين، ترك الشموخُ أثره على جلسته وجبهته!
أدبيًا؛ لا يقل الأستاذ محمود عرفات جديةً ولا صرامةً في الأدب عن جهاده وقت الاستنزاف وحرب استرداد الأرض والكرامة، يعمل دائمًا في صمت، دون ضجيج، لا يعبأ بالكم قدر عنايته بالكيف، منذ استقر في مدينة كفر الزيات بعد انتهاء تجنيده عام ١٩٧٥، فضل أن يكون مقاتلًا جسورًا داخل هذه المدينة الصغيرة، مؤثرًا في حياتها الثقافية، مساهمًا بكل قوة في الأدب المصري، دون أن يغادرها إلى القاهرة، بكل ما تحمله من بريق الشهرة والمناصب.
إلى الآن ما زال الأستاذ محمود يبدع ويكتب ويعقد صالونه الثقافي الرصين في مدينته التي أحبها وسكنته لأكثر من خمسة وخمسين عامًا من عمره. صدرت له ثلاث روايات هي “مقام الصبا” عام ٢٠٠٢، “مشمش الرابع عشر” عام ٢٠٠٥، كلاهما عن دار إبداع الحرية، ثم روايته في أدب الحرب “سرابيوم” عام ٢٠١٥ ضمن روايات الهلال. كذلك صدرت له أربع مجموعات قصصية هي “على شاطئ الجبل” عام ٢٠٠٣ إصدار إبداع الحرية، “المريدون” عن دار الناشر ٢٠٠٨، “الخسوف” عام ٢٠١٣ إصدار مكتبة الآداب، ثم مجموعة “محطات الغياب” عام ٢٠٢٠ إصدار ميتابوك.
من مدينته الصغيرة نال الأستاذ محمود عدة جوائز؛ نذكر منها حصوله عام ٢٠٠٥ على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب” عن مجموعته القصصية “شاطئ الجبل”، ونالت روايته “سرابيوم” أفضل رواية من اتحاد كتاب مصر عام ٢٠١٨. وكان ضمن القائمة القصيرة لجائزة التفوق في الآداب عام ٢٠١٦، كما رشحه اتحاد كتاب مصر لنيل جائزة التفوق عام ٢٠٢٣.
اللوحة للفنان حامد عويس
قرأت للأستاذ عرفات رواية عظيمة في أدب الحرب هي “سرابيوم” تحكي تفاصيل حرب الاستنزاف، ونضال الشعب المصري، من خلال سنوات خمس قضاها عرفات ضابطًا احتياطيًا في الجيش المصري. “سرابيوم” تدفعك إلى البكاء مرات أثناء القراءة؛ حيث ينقل الأديب صورًا صادقة من تجاربه، واصفًا اللحظات الفارقة في حياة الأمة، المواقف الوطنية الخالدة، روح الفداء والصمود، فتشعر أن ما سبق ساهم في الإبداع مع الروائي، فخرجت الرواية بديعة، يحقق لها صدق المشاعر خلودًا، ويضمن للأجيال القادمة شهادة وطنية نادرة، كتبها بدمه أديب فنان ومقاتل جسور، ساهم في النصر، قلما نجد أدباء في حجم محمود عرفات شاركوا في الحرب وقدموا أروع البطولات والملاحم الوطنية، ثم حفظوها لنا وللأجيال القادمة في صورة أدب رفيع.
كانت أعمال الأستاذ محمود عرفات قريبة من مكتبي منذ فترة طويلة، لكن في الحقيقة لم اقترب منها، بعد قراءة سرابيوم” لعدة أسباب، أهمها أني أريد التوجه إليها بشغف ورغبة مُلحة في قراءة أعماله، تمامًا كما ترفع سماعة الهاتف لسماع صوت صديق تشتاق إليه، أو تذهب إليه فتطرق بابه كي تعانقه.
هكذا دون سابق إنذار؛ بعد ندوة صالون عرفات يوم الخميس ٦يونيو الجاري، الذي استضاف الكاتب الكبير الأستاذ عادل عصمت، وجدتني أضع “مقام الصبا” أمامي وأبدأ قراءة الرواية التي جاءت في ١٦٠ صفحة من القطع الكبير، لم يشغلني عنها أي شيء حتى فرغت منها في عشر ساعات متصلة.
رواية “مقام الصبا” ربما تكون من أجمل ما قرأت في حياتي؛ لغة سلسة، شديدة التكثيف، بسيطة، تشعرك بالفصاحة والعامية الدافئة في آن! الراوي لا يعرف الثرثرة، جراح ماهر، يستخدم المشرط بكل حزم، لا يُفرِط في المخدر، لحظات هو يعرفها باقتدار، يجعلك تدخل عالمه الساحر، ثم تفيق في طرفة عين، يغضبك أحيانًا، لأنك تنشد مزيدًا من النشوة والمتعة.
تدور أحداث الرواية في مدينة كفر الزيات؛ تلك صدفة لم أكن أتوقعها، إذ دار حديث بيني وبين الأديب عادل عصمت حول مدينة طنطا في أعماله، قلت: “إنني أخشى كتابة رواية تكون مدينتي كفر الزيات هي المكان، خوفًا من بوح جامح قد لا أجد كابحًا له.”
مع هذه الرواية البديعة؛ رجعت إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، تحديدًا بين عامي ١٩٧٥-١٩٨٥ يتخللها استرجاع الراوي لبعض المشاهد العظيمة لحربيَّ الاستنزاف وأكتوبر.
إن “الصدق” أعظم ما في هذه الرواية؛ تعرض أمثلة بشرية ونماذج إنسانية شديدة الثراء. عم حمدي الترزي الذي فتح باب دكانه لثلةٍ من أصدقائه، تربطهم مودة وعشرة طويلة، انضم إليها الراوي “عمارة” حين وصل إلى كفر الزيات ليستلم عمله الجديد في أحد مصانعها بعد الحرب.
عم حمدي الترزي، بدر خليل مدير عام بالشركة، عزت إدريس مندوب مشتريات، إبراهيم سلامة المحامي، السيد ماضي مراجع حسابات. هؤلاء هم الأعضاء المنتظمون في الحضور إلى محل عم حمدي كل ليلة، هذا الرجل الأيقونة، الساحر المذهل في الرواية.
من هؤلاء تنبت الرواية؛ تنطلق الأحداث وتتشعب من دكان عم حمدي. رصيف المحل يشارك أيضًا، فنعرف أم شادية بائعة الفاكهة، زوجها عواد البشلاوي، صبري النونو “نمام” يعمل كهربائي وقت الفراغ! ثم تتعمق العلاقات بين أفراد “الشلة” ويأخذنا الراوي إلى أماكن محددة في المدينة الصغيرة، التي كانت جميلة إلى حد الروعة، لكنها أمست مشوهة إلى حد النفور منها!
هذه الأماكن التي جاءت في الرواية أعرفها بكل تفاصيلها، مطبوعة ولا تزال في مخيلتي، مما زاد من جمالها ورهافة النوستاليجا التي تشق قلبي بمبضع شديد الرقة، تثير في النفس مزيجًا من البهجة والسعادة والحزن والألم، الحنين المفعم بالأسى على أشخاص وأمكنة لم يعد لها أثر إلا في ذاكرة مهترئة بفعل الزمن!
في أجمل فيلا في كفر الزيات، ينسج عرفات قصة حب ناعمة بين “عمارة وفايزة” شقيقة السيد ماضي، المصابة بشلل أطفال. فايزة الفتاة الجميلة، الرقيقة، صاحبة الوجه الصبوح المضيء لم يكتفِ القدر بانتزاع قدرتها على الحركة واللعب كسائر الأطفال، بل حرمها من الارتباط بحبيب عمرها “عمارة” لأن قلبها لا يحتمل الحب، ولا يصمد أمام الزواج وتبعاته، مِن حبٍ ومتع، وآلام مخاض وعطاءات أمومة.
مع كل هذا؛ لا أعرف أيهما وضع تلك النهاية المؤسفة لهذا الحب الرائع؟ القدر أم الراوي العليم؟
لقد لعنت المرض؛ الذي تجاسر على فايزة وهشم قلبها الأخضر، صحيح أنها تتعثر حين تخطو على الأرض، لكنها ترفرف حول حبيبها “عمارة” فراشة رقيقة!
كرهت الموت؛ الذي أطفأ هذا الطيف النوراني، وأطاح بهالة من بهاء نادر، وغضبت من عرفات والراوي وعمارة.
لماذا ينتهي دائمًا كل جميل بهذه القسوة وتلك السرعة الغادرة؟ حب ظهر كشهاب في السماء، ثم غاب في لمح البصر، لكنه ترك قلبًا نازفًا، وعينين دامعتين، وسماء قاحلة، لا تحمل شيئًا!
لعل ما يغفر للراوي هذه القسوة الشديدة، حين أمات حبًا عفيفًا مقدسًا؛ أنه لم يدنس هذا الحب بالثرثرة، ولم يهشمه بالفائض من المشاعر والأحضان والقبلات، لكنه أخرجه من قلبه وروحه ودمه، ليودعه قلبك وروحك ودمك! ثم يتخير أرق الكلمات وأعمقها لينثرها حول هذا العشق النوراني، فلا تستطيع إلا أن تقف أمامه في جلال وخشوع!
قصة حب في نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ لكنها مازالت متوهجة، براقة، خضراء لينة، ربيعية لا خريف أو انزواء، ورغم أن الرواية صادرة عام ٢٠٠٢، إلا أنها طازجة، تعرض الواقع الاجتماعي، وتقدم نفسها كأيقونة رومانسية في عصر شديد الجفاف والجفوة، بل أجدها صالحة لتجسيدها سينمائيًا ودراميًا كمسلسل تلفزيوني، يتناول حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر بصورة مشرفة ضمن أحداث وعلاقات مصرية أصيلة وراقية.
إن محمود عرفات رجل له خصال قلما نجدها في هذا العصر، كإنسان ومثقف ومبدع وعسكري. أجد القلم عاجزًا عن وصفه وسبر أغواره، فهو شديد الغموض، لا لسبب إلا لتواضعه، لصمته المُعبر، حديثه المصفى فلا تنهل منه إلا عصارة الحكمة وخبرة السِنون. يحب بقوة، ينصح بضمير، يكتب بمداد من دمه، يعيش هادئ البال في صومعته، نقي، ودود، إذا غضب كان الصمت سلاحه، والتجاهل ضربته القاضية، يصوبها نحو مَن جار على حقه، أو اقتحم مملكته وهتك سكونه.
مع كل هذا؛ يفتح أبواب هذه الصومعة في الخميس الأول من كل شهر، يستقبل ضيوفه وأحبابه مرحبًا بهم في صالون عرفات الثقافي الذي قارب على العامين دون انقطاع، ولن ينقطع أبدًا بإذن الله.
لم بق لي غير الإشارة إلى ذائقة هذا الأديب؛ فإن له أذن موسيقية من طراز رفيع، يعشق الموسيقى والغناء. يحمل في وجدانه موسوعة موسيقية لا تجدها إلا عند المتخصصين في الغناء والموسيقى. متذوق للشعر، يحفظ مئات الأبيات من روائع الشعر العربي.
ختامًا؛ فإن هذا الرجل يجمع بين نقيضين في جمال وبهاء نادرين! هو المتدين المتبتل، تعتقد أنه متزمت خشن، وهو البحبوح البشوش، قفشاته ودعاباته وآراؤه التنويرية كل هذا يلقي في قلبك أنه لا يعير للدين اهتمامًا كبيرًا على عكس الحقيقة، فهو ليبرالي كبير من الزمن الجميل، ومثقف عظيم من أبناء عصر النهضة الذي عاشته مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.