الزمالك ،ليس النادى الذى أشجعه والذى فاز على الأهلى منذ شهرين تقريبا،لكن المقصود هو حى الزمالك الراقى والذى انطلقت منه ثورة يونيو بعد اعتصام المثقفين ، وهو الحى الذى تشرد فى شوارعه وعلى نواصيه الشعراء والروائيين والأدباء مطلع العشرينات والثلاثينات فأصبح أشبه بحائط للبكائيات المريرة كما هو الحال لمشجعى النادى الأبيض، ولا تخلو مذكرات جيل الرومانسيين من قصص وحكايات غرامية فاح عطرها فى حى الزمالك قبل أن تنتهى بمأساة درامية بدأها الشاعر إبراهيم ناجى صاحب الأطلال بحكاية حب عجيبة غريبة مع الفنانة زوز حمدى الحكيم ،ولم يخل كتاب من كتب أصدقائه ومعارفه من لمحات عنها، وعاش الدكتور زكى مبارك قصصا مشابهة فى الحى نفسه ومع الفنانة نفسها فى تنافس مدهش على قلب فنانة لا تعرفهما تقريبا إلا بحكم زيارات لعيادة الطبيب إبراهيم ناجى وقصائد على الروشتات للمريضات،ولقاءات عابرة وسط جموع فنانين ومسرحيين وأدباء كان منهم الدكتور زكى مبارك!،فقد كانت زوز حمدى الحكيم على درجة رفيعة من الثقافة والوعى وتجيد قراءة الشعر وحفظه وإلا ما تزوجها فارس الصحافة ودنجوانها محمد التابعى الذى وقع فى غرام ثقافتها قبل الوقوع فى جمالها المحدود والمتواضع وأخذها من يدها فى سيارته إلى قرية ( سنتريس )فى أسيوط لاستخراج صورة من أورق طلاقها من زوجها السابق المدرس ليتزوجها .
لم تكن الزمالك بهذه الرومانسية قبل هذه المرحلة ،بل كانت مجرد مكان للأكواخ العشوائية والكلاب الضالة وملتقى لتجار الليل،لكن رجلاً من صعيد مصر اسمه”عبد النعيم محمدين” قرر عام 1897 استثمارها فاشتراها بملاليم وأعاد إليها الحياة وزرع أرضها بالفاكهة والخضار واستقدم رجالة البلد من قنا فأقاموا بها يزرعون ويحصدون فظهرت معالمها كجزيرة جميلة تطل على النيل وترى القاهرة من بعيد،فخطفت عيون المشاهير فى الفن والسياسة والحب والمعارك أيضاً،فهناك عاشت أم كلثوم مع كلبها الذى قضم ساق مواطن مصرى ذات صباح فأصيب الكلب بالتسمم حسب تقارير الشرطة،فهاج الفاجومى أحمد فؤاد نجم وكتب قصيدته المشهورة عن الست وكلبها وعن حى الزمالك الذى هو مسالك مسالك تحاول تقرب تهوب هنالك تودر حياتك بلاش المهالك،وكانت الرسالة لكل الفقراء والبائسين الذين لم يسعدهم الحظ بالسكن مع الباشاوات الكبار و كلابهم الناعمة فى حى الزمالك .
قبل أن تسكن أم كلثوم عمارة ليبون التى بناها الخواجة اليهودى تشارلو ليبون كانت العمارة بتصميها الفريد قد سرقت عقول فنانى مصر ومشاهيرها فسكنها محرم فؤاد صاحب الحظ الأوفر فى الزواج من الجميلات،جورجينا رزق نموذجاً،وسكنتها ليلى مراد وفاتن حمامة وشيريهان،وتحولت شوارع الحى الراقى إلى عاصمة باريسية تتقاطع فيها فيلات الباشوات ومقرات السفارات وتفوح منها عطور الهوانم والفاتنات وأصبحت مقصداً للشعراء الباحثين عن العذاب والضنى تحت بلكونات الجميلات،وها هو زكى مبارك يكتب عن ليلى المريضة بالزمالك ويستفيض فى وصف الألم والحزن الذى سكن قلبه بسبب هذه ال”ليلى” التى تركته وحيداً واختارت النجومية والشهرة .
الشاعر صالح جودت وكان الأقرب إلى زكى مبارك وموضع أسراره الخاصة قال إن الفنانة “ز” هى المقصودة، وقال إن زكى مبارك كان كصاحبه إبراهيم ناجى خفيف القلب يحب كل امرأة يلتقى بها، وأن ” ليلى”هى نفسها الفنانة التى ألهمت ناجى!،وأنها كانت من لدات طفولته لأنها من سنتريس،ولا تهتم بكلمة “لدات ” وركز مع اسم قرية سنتريس التى ذهب إليها محمد التابعى بسيارته لتعرف السر الذى يظن جودت أنه أخفاه عن القارىء !.
المهم أن رجل الزمالك المسكين عاش السنوات العشر الأخيرة من عمره هائماً بزوزو التى لم تذكر كلمة عن هذه العلاقة، لكنها اعترفت بقصة غرام إبراهيم ناجى لها بعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عاما على رحيله .
إذن اتفق ناجى وزكى مبارك على حب فتاة واحدة اعتبرها كل منهما ملهمته وحده!،لكن الحظ السىء لناجى جعله مشهوراً بعد وفاته بثلاثة عشر عاماً عندما تغنت أم كلثوم برائعته “الأطلال ” فاكتسب شهرة كانت جديرة بالوصول به إلى قلب زوز حمدى الحكيم لو أنها جاءت مبكرة .
يروى كمال النجمى أن قصيدة الأطلال كانت مرشحة لكى تقدمها أم كلثوم عام 1952 ولكن اندلاع الثورة صرفها عن القصيدة بعدما تعب ناجى فى اقناعها بغنائها وبعدما عانى كثيرا من رفض أحمد رامى غناء قصائد لشعراء أحياء!، فلم تغن أم كلثوم قصيدة من الشعر الفصيح لأحد من الأحياء إلا عام 1926 إذ غنت “فتنت بلحظك الفتاك “للشاعر على الجارم ،وفى فيلم سلامة غنت قصيدة قصيرة لعلى أحمد باكثير “قالوا :أحب القس سلامة “،وقد تحررت أم كلثوم عام 1954 فظهر أبو فاشا مأمون الشناوى ومحمود حسن اسماعيل وجورج جرداق والهادى آدم ونزار قبانى وصالح جودت،وقد توفى ناجى عام 1953 ورقدت القصيدة حتى عام 1966 .
وأنا فى حقيقة الأمر لم أحب ناجى ولم أتعاطف معه مطلقاً ولم أحفظ بيتاً من أشعاره ، لكننى وقعت فى غرامه بسبب هذه الواقعة الغريبة والمحزنة لرجل بلا حظ فى الحياة ،ونكاية فى العقاد الذى استقبل ظهورناجى بغلاظة القلب وقسوة اللفظ وشن عليه هجوما ضارياً كاد أن يصفه بالمخنث لما يستخدم من لغة ناعمة ومفردات رومانسية كانت بعيدةجدا عن لغة العقاد الجامدة .
كل ما فى الزمالك حاليا أصبح ” أطلال ” ،حديقة الأسماك التى شيدها إسماعيل لمتعة جميلة جميلات إيطاليا “أوجينى” أصبحت صخوراً وكهوفاً بلا أسماك،القصرالذى استورد ديكوراته واكسواراته من باريس اشتراه أمير لبنانى قبل أن تستحوذ عليه شركة ماريوت العالمية!، فيلا أم كلثوم أصبحت كما تراها من أعلى كوبرى مايو!، لكن ستبقى الحكايات .
اقرأ ايضًا: