وجوه (ناجي الشناوي) تغطي العشرين عامًا الأخيرة وتجد فيها من غاب، ومن رحل، ومن طالته أثار الزمن وأحواله. ومع عرض الفيلم- داخل المقهى- لمحت حنينًا من المبدعين للسنوات التي انفلتت منهم, والوجوه التي رحلت عنهم، والذكريات التي تغبشت بغبار السنين.. الفيلم ألبوم صور مفتوح يحو ايامًا بعيدة في فضاء الذاكرة.. مع كل وجه سطع علي الشاشة سمعت تصفيقًا حانيًا نبيلاً مختلطًا بالدموع علي صفحات العيون وداخل القلوب حولي. ورغم أن الوجوه تصل إلي ثلاثمائة وجه، لم ترد إلي أذني أي من عبارات التجريح تجاه مبدع من المبدعين، فالزمن يجلو الجراح ويمحو الضغائن، وملامح الوجوه الغابرة مجردة وبريئة ومتوحدة مع لحظتها البعيدة.
الشناوى يتبع فلسفة مدرسة اللحظة الحاسمة في التصوير،كل صوره التقطها دون شعور من أحد، التقطها مع اكتمال الوجه واكتمال لحظته بتفاصيلها الداخلية والخارجية. (الشناوي) مثله مثل (كارتييه بريسون) (1908-2004) مؤسس المدرسة،الذي حاول القبض بكاميرته علي لحظات نادرة في الحياة، ممسكًا بعينيه وعدسته علي ذلك الجزء من الثانية الذي يفصل بين صورة جميلة وأخري عبقرية، معتمدًا علي احساس خاص بالزمن، وعلي لحظة صمت أبيض يقبض عليها بضوء الكاميرا،لأن الضوء في مدرسة اللحظة الحاسمة سر الصورة وأساس تشكيلها وباعث الحياة فيها… ومع تأملنا لوجوه (زهرة البستان) نتيقن أن هناك علاقة خاصة ربطت بين المصور ووجوهه،وجعلته يجوس بضوئه إلي ما بداخلها من خفايا واسرار،ليقبض بعدسته علي الفنان والصديق في آن واحد، وخصص (الشناوي) بعضًا من صوره لإبراز تأثير الزمن علي وجةه, بتصويرها علي فترات زمنيه متفاوتة،مثل صور: الكاتب والروائي إبراهيم عبد المجيد،الروائية سحر توفيق،الروائي مكاوي سعيد، الشاعر محمد عفيفي مطر،د. صلاح الرواي،د. مدحت الجبار، الشاعر إبراهيم داود، الشعرى سعدني السلاموني, الشاعر إبراهيم عبد الفتاح, المترجم أحمد حسان.. ولم يهتم (الشناوي) عند التقاط صوره بقيمة الأديب أو مدي تحققه في سماء الإبداع المصري، فبين صوره صورًا لأدباء كبار: بهاء طاهر، خيري شلبي،سيد حجاب،مجيد طوبيا، محمد مستجاب،سليمان فياض،فريد أبو سعدة، عدلي رزق الله، والفنان عبد العزيز مخيون، وصورًا لمبدعين مروا كطيوف علي المقهي وعلي الفن المصري الحاضر هنا المقهي وظلاله وأجواءه المغوية المؤثرة علي المبدعين، الذين ركنوا إليه أو الذين مروا عليه مرورًا عابرًا.. وهناك عدة صور لكائنات المكان السحرية من غير المبدعين: الحاج عبد اللطيف، سيد بطه، أحمد موس، رمضان، أم أميرة، دياب،جرجس،بائع السندوتشات, بائع الجرائد, لأنهم جزء كم ذتطرة المكان الحية وملامه.. وعلاقة (الشناوي) بالمقهي تمتد إلي ثلاثين عامًا خلت منذ أواخر السبعينات، ومرت علي عينيه كل أجيال مبدعي تلك الفترة، ولا يجد أي فارق بين الأجيال الإبداعية المختلفة، ويري أن أي محاولة لإضفاء ملامح وسمات علي جيل من الأجيال مجرد عبث لا طائل منه, المبدع مبدع وليس له أي تعريف آخر, المبدع الحيقي لا يرتبط بجيل ولا يخضع لزمن, والموهبة الحقيقية تعرف طريقها إلي النور.. وكتب (الشناوي) مجموعتين قصصيتين، الأولي (تمني لو رأي البحر)، طبعها علي نفقته الخاصة ووزعها علي أصدقائه من الكتاب والفنانين, والثانية بعنوان (الصباح التالي) عن دار المحروسة، ويعتز (الشناوي) بمهنته الأصلية كمهندس معماري،ويعتبرها نوعًا خاصًا وفريدًا من الفن،(وهو سليل عائلة فنية صاغت وشكلت الوجدان المصري منذ الأربعينات،والده الشاعر الغنائي العبقري مأمون الشناوي (1914-1994)، ودعمه الشاعر كامل الشناوي (1908-1965) أحد رواد الصحافة المصرية،وأحد أعذب الأصوات الشعرية المصرية.. ولم يكن غريبًا أن تكون أغنية (أنساك) لكوكب الشرق (أم كلثوم) هي الأغنية المصاحبة لفيلم (وجوه البستان) فالأغنية رسالة بالغة الرقة والجمال من الفنان إلي والده الراحل،ومن الفنان إلي مكانه ومقهاه الأثير،وإلي كل الوجوه التي رأها وراقبها بعينيه والتقطها بعدسته، وإلي كل الأشياء الجميلة التي مرت بحياته ولمعت داخل روحه.
كم يسعدني أن أرى سطرًا جديدًا في دنيا الثقافة والفن والأدب يثري الفكر ويغذي الروح، بقلم اعتاد التميز والتفرد
تحياتي وتقديرى وتهنئتي لشخصكم الكريم