قابلت ماهر زهدى مرات فى محطات مترو وشوارع وسط البلد المتقاربة ،وفى كل مرة نتحدث سريعا عن ذكريات قديمة ونتواعد أن نتبادل الكتب ، لكنه كان ندلاً عظيما فى مواعيده ، حتى أهدانى صديقى الروائى عبد الوهاب داود هذا الكتاب ، ىفقلت جاءت الفرصة كى انتقم منك يا ماهر جزاء ما فعلت بالمواعيد، لكنه فاجأنى وأسال دموعى وجعلنى أغفر له وأنا أرى الشيخ سيد تائه يا ولداه يتلمس الحوائط التى بقيت عليها رائحة صلاح!،مات صلاح جاهين والشيخ سيد لا يصدق هذا الكلام الفارغ ،يتحدث إليه ويناجيه ويعرف طعم الحزن الكبير وهو الذى لم يحزن للعمى! ،فقدّ نعمة البصر فجعل الأمر مُزحة عظيمة عاشت فى الوجدان، ها هو يعتصر بالألم كما وصفته نعم الباز : في جريدة “الأخبار”:
“لم ألحق بجنازة صلاح جاهين.. لكنني رأيت سيد مكاوي.. فحضرت الجنازة بأكملها”.
غفرت لماهر زهدى وهو يأخذنى لآرى (إيناس) الشمس الصغيرة التى دفأت قلب الشيخ سيد ،لم تكن ابنة تحب والدها ،كانت صديقة وهى فى العاشرة ، ماهذا الجمال الذى يحكى عنه ماهر زهدى فى كتابه عن تلك البنت التى يتمنى كل آباء الدنيا أن تكون تلك هى نور عيونهم كما كانت إيناس التى ستظل حاضرة فى حياة سيد مكاوى المبهجة والمحزنة ،غفرتُ لماهر زهدى لجمال اللغة والقدرة على الحكى وتسليط الضوء على تفاصيل غاية فى الرقة والنعومة والحزن أيضا.
ودع صلاح جاهين الدنيا، في 21 أبريل عام 1986،رحل الذى “بالمحال اغتوى” ،وتحسس الشيخ سيد الحوائط حتى جلس فى البلكونة مهدود الحيل ،وكانت مهمة السيدة زوجته وابنتيه إيناس وأميرة فى غاية الصعوبة ، ماذا يقولون والألم يعتصرهم جميعا ، إيناس صنعت لعموجاهين سندوتشات الجبنة فى سهرات المزيكا مع بابا ، وأميرة كانت تراقب بعيونها الصغيرة كل هذا الدفء والجمال الذى يعم البيت فى حضور عمو صلاح ،والسجاجيد والحوائط والأرضيات كانت تعرف ضحكة صلاح وسيد ،هنا صنعا سويا قطعا من اللؤلؤ والمرجان ،والموقف حزين ومقبض، مرت دقائق ثقيلة شعر بها كأنها دهر، استرجع فيها الشيخ سيد شريط حياته، منذ مولده ونشأته في حي الناصرية، وكيف قادته الصدفة، بعد رحلة بحث طويلة، لأن يلتقي بنصفه الإبداعي صلاح جاهين، كيف عاشا وتصعلكا، وشهدت علي صعلكتهما أزقة وحواري السيدة زينب، وسيدنا الحسين، وعابدين، ووسط القاهرة، كيف استخرجا المجد من الألم؟ وكيف انتزعا الأشواك من حول الورد ليقدماها لجمهورهما.
لم تنزل دمعة واحدة من عيني الشيخ سيد، ظل صامتاً حتي أخبرته إيناس بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، فطلب منها اصطحابه بالسيارة إلي هناك، ظل طوال الطريق صامتاً، فيما تحاول إيناس ألاتشعره بدموعها، تكتم أنفاسها في صدرها، فقد فقدت أبا لها، وتخشي أن تفقد الثاني، وماإن وصلا إلي مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، حتي وجدا بهاء جاهين وأمين حداد يقفان أعلي السلام، فهرولا واصطحباه… نظرت إيناس فوجدت فيهما صلاح جاهين وفؤاد حداد ينزلان ليصطحبا سيد مكاوي!
وظل يردد : كده برضه يا صلاح تعملها وتسيبنى ؟!
رافق الشيخ سيد حبيب العمر إلي مثواه الأخير وهو غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين صامتاً حزيناً، يمشي في جنازة من ملأ الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية… سيد مكاوي الذي لم يحتمل يوماً أن يزور صديقاً له في مستشفي.. يمشي في جنازة أحب الناس.. الدموع تبلل كل الوجوه.. فيما هو مكفهر الوجه توقف الدمع في محجرية… حتي اطمأن أنه رقد في مثواه الأخير.
انتهت الجنازة، وعاد الشيخ سيد إلي مكتبه، فيما راحت أسرته تتابعه عبر الهاتف من خلال العاملين بالمكتب، فهم يخشون عليه من هذه الصدمة المروعة، خصوصاً أنه يجلس صامتاً، لم يتحدث كلمة واحدة مع أحد، ظل جالساً بمفرده، يعيش ألم الانفصال، انفصال جزء عزيز إلي نفسه عن ذاته، وفجأة بعد طول انتظار وخوف عليه، خرج عن صمته وطلب ابنته إيناس عبر الهاتف:
أيوا ياإيناس. أنا رايح إسكندرية.. هتيجي معايا ولا أروح لوحدي؟
لا طبعاً يابابا.. مش ممكن أسيبك. هروح معاك.. هحضر نفسي حالاً.
في صباح اليوم التالي، ركبا القطار معاً إلي الاسكندرية، ظل الشيخ سيد طيلة ثلاث ساعات، مدة الرحلة، صامتاً لم يتحدث بكلمة واحدة، وما إنوصلا إلي شقته في الإسكندرية وجلسا، حتي انفجر منه بركان من الدموع، لم تعرف إيناس من أين تأتي كل هذه الدموع، يبكي ويردد جملة واحدة:
كدا ياصلاح. تعملها فياً.. ماشي. ماشي ياصلاح.. كدا برضو تعملها.. ماشي.. ماشي ياصلاح ماشي.
أصعب أربعة أيام مرت علي ابنته إيناس التي ترافقه بمفردها. لاتعرف ماذا تفعل، ماذا تقول، لم تستطيع أن تدخل مساحته، فهمت للمرة الأولي في حياتها معني ألا يكون لديها مجال للحزن، علي رغم مايسيطر عيها من كم الأحزان، حزينة لدرجة أنها لم تستطع أن تعبر عن حزنها.
في اليوم التالي خرجت كل الصحف العربية تنعي وفاة صلاح جاهين، غير أن الملاحظة اللافتة والمهمة، كانت تلك التي كتبتها الكاتبة “نعم الباز” في جريدة “الأخبار”:
“لم ألحق بجنازة صلاح جاهين.. لكنني رأيت سيد مكاوي.. فحضرت الجنازة بأكملها”.
لم يضطر سيد مكاوي وابنته وإيناس إلي العودة إلا المسئولون في التليفزيون المصري، الذين ألحوا بإصرار علي أن يشارك في برنامج عن الراحل صلاح جاهين، غير أنه رفض مؤكداً أنه لن يستطيع، غير أنهم دخلوا له من مدخل لم يستطع أن يقاومه، عندما قالوا له:
هذا حق صلاح عليك.
في البرنامج رفضت الفنانة سعاد حسني الظهور، لعدم قدرتها علي الحديث عن حبيبها وأستاذها ووالدها الروحي أمام الكاميرا، لعدم قدرتها علي الحديث عن حبيبها وأستاذها ووالدها الروحي أمام الكاميرا، فيما اكتفت نيللي بجملتين ولم تستطع أن تكمل، وعندما جاء الدور عليه للحديث، فوجئ صانعو البرنامج بسيد مكاوي يتحدث عن صلاح جاهين وكأنه لايزال في قيد الحياة، لم يتحدث عنه بصيغة الماضي أو الغائب، بل تحدث عنه بصيغة الحاضر الذي لم يغب.. ولن يغيب:
أيوه طبعاً أنا وصلااح عملنا “الليلة الكبيرة”، وأخدت منه وقت طويل في كتابتها، بس خرجت من أبدع مايكون، وبعدين إبداع “الرباعيات”.. وعملنا أغاني لكل المطربين الموجودين علي الساحة.. وغيرهم كتير اختفوا من علي الساحة الغنائية، عملنا أغاني وطنية وعاطفية.. بس ده مش معناه إننا عملنا كل حاجة.. لا ده لسه في حاجات كتير هنعملها مع بعض.. وإن شاء الله هتخرجقريب للنور.. صلاحكتب كتير.. وكتب في كل حاجة.
صلاح عمره ما اكتأب.. لكن ممكن يكون في فترة زعل من مصر.. مش علشانه لكن علشان مصر.. وده انتهي بسرعة لأن صلاح عاشق لمصر.. وتراب مصر.. وعاش لمصر.. و.. و.. وأرجوك كفاية كده.. كفاية كدة.. الناس ماتعودتش تشوفني إلا وأنا بضحك.
فجأة طلب الشيخ سيد من المذيع أن ينهي اللقاء ويوقف التصوير فوراً، لأنه لم يقو علي أن يقول:
و”مات وهو بيحب مصر”.
لم يستطع المذيع أن يلبي طلبه علي الفور، غير أن الشيخ سيد لم ينتظر أن يتوقف التصوير، وانفجر في بكاء مرير، للمرة الأولي يبكي بصوت مرتفع أمام الجمهور.
وهنا داهمنى حزن أسال دموعى جعلنى أغلق الكتاب وألعن ماهر زهدى على تلك المتعة .