أين ذهب كل هؤلاء يارب العالمين ؟ رائحة غيابهم تملأ الفراغ :هنا كان يمشى عم سعد الكٌلوباتى ،وهنا كان يجلس عم محمد سليمان العرضحالجى ، وهناك كان بجوار تمثال إبراهيم باشا كان يجلس عفريت الشارع (عم زهران )يبيع طوابع البريد والعملات القديمة ، من يارب العالمين يعرف القارىء المزمن محمد حسين حجازى أشهرمراسل لأبواب بريد القراء فى صحف مصر كلها؟، وأنا لم أقرأ كتابا يحمل كل هذا الشجن للمكان والناس وللعابرين مثلما فعل كتاب رائحة الغياب لأسامة كمال ، كاتب يبدأ بالصورة ويتشمم رائحتها ويتتبع أثرها فى القاهرة وأسكندرية وبورسعيد التى ولد بها وعاش لها ومع أرصفتها.
وعند مقاهى الأدباء فى مصر يتوقف أسامة كمال وقفة حنين جارف ، فالمقهي عند المصريين ليس مجرد مكان يأنسون به ويأنس بهم، المقهي (حالة) يختفى فيها البشر مع المكان, ويصير كلًا منهما ظلًا للأخر ومعني له، بمجرد الخروج من جدران البيت تبحث الأرواح عن مقهاها كضوء بعيد للتوحد معه وتلامسه أينما كان, ومن تعرف روحه طريقها إلي مقهي زهرة البستان، لا يمكن لها أن تفارقه، يظل القلب قابعًا فيه، يناديه في غيابه حتي يعود، وفي نومه حتي ينهض،وفي موته حتي يتنسم الجالسون رائحته بينهم وحولهم، وهذا هو حال مقهى زهرة البستان الذى ظل حتى منتصف التسعينات قصة الأدباء والمثقفين التى تكتمل دائما بالحديث عن مقهى ملاصق هو مقهى (ريش) ،حتى وإن بحثّ جيل الألفية الجديدة عن مقاه آخرى مثل (التكعيبة) و(الخن) و(الجراج) و(الممر)،إلا أن زهرة البستان لها رائحة الخلود .
يؤرخ أسامة كمال لتاريخ المقهى الذى بدأ لمعانه مع سبعينات القرن الفائت حينما عرف طريقه مبدعو السبعينات بعد هجراتهم المتوالية إليه لضيق أحوالهم, وبحثًا عن التمايز الابداعي عن الأجيال السابقة لهم، والساكنة بجوارهم في مقهى (ريش) الذي تناقلت بشأنه الحكايات والاساطير الخاصة بجيل الستينات، وتبعهم في ذلك أجيال الثمانينيات والتسعينات ليتحول المقهي إلي قبلة المدعين من كافة الأقاليم المصرية.
ظل أسامة كمال يبحث عن السر الذى يجعل للزهرة عطرها الخاص ، يقول : ( وجدت ضالتي في فيلم (وجوه البستان) للكاتب والفنان( ناجي الشناوي)الذي عرض بالصور الفوتوغرافية ( لوجوه البستان) التي ارتادت المقهي ولازمته لفترات طويلة من المرابطين فيه إلى العاملين في أرجائه إلى العابرين أمامه تحت إغواء ظلاله الأثيرة).