عبد السلام فاروق
لا شيء يثير ضجة في عالمنا العربي مثل لمس التاريخ بإصبع درامي.. التاريخ ذلك المارد الذي ينام في الكتب ثم يستيقظ فجأة على شاشات التلفزيون ليصبح حرباً ساخنة بين مؤيد ورافض وبين مادح وذام .. هكذا هو مسلسل معاوية.. عمل ضخم يكفي أن نقول إن ميزانيته مائة مليون دولار لتعرف أن الأمر ليس لعبة.. لكن النار التي أشعلها العمل بعد عرض الحلقات الأولى قد تلتهم حتى تلك الملايين إن لم يكن الحطب المستخدم فيها مدروساً.
هنا حيث يجلس معاوية بن أبي سفيان – الصحابي والملك الأول في الإسلام – على كرسي الاتهام.. هل هو الصحابي الجليل الذي حكم أمة بذكاء سياسي نادر.. أم هو الرجل الذي فتح باب التوريث، وزرع بذور الفتنة التي انتهت بدم الحسين في كربلاء.. السؤال نفسه الذي تشاجر حوله المؤرخون منذ قرون يعود اليوم عبر مشاهد تمثيلية.. التاريخ لا يعاد كتابته بل يُعاد تصويره.. والكاميرا هذه المرة ليست محايدة..
المشكلة ليست في معاوية وحده.. المشكلة في زمن الفتنة الكبرى بكل ما يحمله من جراح لم تندمل.. أيام تختلط فيها الدماء بالسيوف وبالخلافات التي ما زالت حتى اليوم تحرق قلوب الملايين.. كيف ستعرض الدراما مقتل عثمان بن عفان.. وكيف سترسم صورة علي بن أبي طالب وهو يدخل في صراع مع معاوية.. أي رواية ستتبناها الكاميرا.. الرواية السنية أم الشيعية، أم الرواية التي سيطالب بها “الوسط”.. وكيف سيتعامل النص مع لحظة تسليم الحسن بن علي الحكم لمعاوية.. هل هي تنازل حكيم أم استسلام مُذل .. أسئلة لا تحتمل إجابات درامية بريئة.
الدراما تكشف عورات التاريخ..
لا تكفي الكاميرات الفاخرة ولا الميزانيات الفلكية لصنع دراما تاريخية عظيمة.. فالتاريخ ليس ديكوراً تُعلِّقه على الجدران، بل هو شبحٌ يطاردك من أول لقطة.. وها هو مسلسل معاوية يجرُنا إلى سؤال ملِح: مَن يخاف من التاريخ إلى هذه الدرجة؟!
الغريب أن معاوية نفسه – الصحابي والملك – لم يكن ليهتم بكل هذا الضجيج.. فهو ابن بيئته السياسية التي كانت تذبحُ ببرود وتصالحُ بدهاء.. لكننا نحن – جيل السوشيال ميديا والهويات الهشة – حولناه إلى “تريند”.. نتصارع عليه كأننا نناقش حرب مارفل، لا حدثاً مزق جسد الأمة قبل قرون.. المسلسل هنا مرآةٌ لعقدنا، لا لتاريخه..
انظروا إلى فريق العمل: سوري، أردني، مصري، وفلسطيني مُستبعد.. كأنهم يعيدون تمثيل الوحدة العربية المفقودة على استحياء.. لكن الممثل الفلسطيني (علي سليمان) طرد لأن لغته “غير نقية”، بينما قبلوا لكنة الممثل السوري (لجين إسماعيل).. أي تناقضٍ هذا؟! هل اللهجةُ شرطٌ لتجسيد التاريخ، أم أن الأمر مجرد ذريعة لتفادي إزعاج “التابوهات”؟!
الأزهر يصرخ اليوم كعادته.. لكن صرخته أشبه بمن يُحذر من فيضان بعد أن غمرت المياهُ المدينة.. فالمسلسل لم يصنع الخلاف، بل كشف النقاب عن جرحٍ نازف منذ أن صار الحُكمُ “مُلكاً عضوضاً”.. هل يخشى الأزهرُ من الدراما أم من انكشاف حقيقة أن تاريخنا لم يُحسم بعد؟!
أما القائمون على العمل فيتوارون وراء شعارات فنية: “هذا ليس تأريخاً، بل دراما مُستلهمة من التاريخ”.. كأنهم يقولون: نحن نبيع الوهمَ، فاشتروه.. لكنهم يعلمون أن الجمهور العربي – المطحون بهويته – سيبحث عن “الحقيقة” في كل لقطة.. فالشعب الذي فقد قدرته على قراءة ماضيه سيُصدق أي مسلسلٍ يمنحه بطولةً وهمية!
السيناريو سيكون الضحية الأولى.. فكاتبُ العمل (خالد صلاح) صحفي اعتاد صياغة العناوين المثيرة للجريدة، لا حوارات الشخصيات المعقدة.. كيف سيوازن بين قدسية الصحابة ودرامية الصراع؟ هل سيُحول معاوية إلى “بطل تراجيدي” كأنه شخصية شكسبير، أم سيلعب دور المحامي الذي يُبرئ ساحته تاريخياً؟!
المخرج (طارق العريان) بارعٌ في صناعة المعارك.. لكن معركة التاريخ الحقيقية تدور في العقول والقلوب، لا في مشاهد السيوف والخيول..قد ينجح في إبهارنا بانفجارات الميزانية، لكن هل يملك الجرأة ليفتح باب الجحيم: لماذا قُتِل عثمان؟ من دفع للحسن كي يتنازل؟ هل كانت كربلاء ثورةً أم انتحاراً سياسياً؟
المشاهد العربي سينقسم إلى فريقين: فريقٌ سيرى في المسلسل “كشفاً للحقائق المدفونة”، وفريقٌ سيتهمه بـ”التزوير المُمنهَل”.. لكن قليلون من سيتساءلون: لماذا نستسلم للدراما لتُخبرنا مَن نحن؟ أين المؤرخون الجادون؟ أين المشاريع الثقافية التي تُعلم الشباب قراءة التاريخ بعيون نقديةٍ بدلاً من انتظار “البرومو” ليُحدد لهم مَن الأشرار والأخيار؟!
العبرة ليست في منع المسلسل.. فالحلُّ ليس في إسكات الأصوات، بل في رفع ضجيج الحوار العقلاني.. لكننا – كالعادة – نختار أسهل الطرق: إما تقديس التاريخ وتحنيطه، أو تشويهه وبيعه كسلعة درامية.. بينما التاريخ الحقيقي يضحك منّا جميعاً.. فمعاوية الذي خاف من ذكرى الحسين طوال حياته ها هو يصير “نجماً” في مسلسلٍ بعد موته بألف عام.. أليس هذا انتقاماً إلهياً؟!
المسلسل سيُعرض، والجدل سيشتعل، وستُحرق أدمغةٌ كثيرةٌ بين مؤيدٍ ورافض.. لكن الحقيقة المرة هي: لا الدراما ستُصلح التاريخ، ولا التاريخ سيُصلح حاضرنا.. فالأمة التي تعيش على أوهام الماضي لا تستحق إلا مسلسلات تُذكِّرها أنها كانت يوماً شيئاً!
“اللاوعي الجمعي” ضحيةً
لا تكمن الخطورة في أن يختلف الناس على التاريخ، بل في أن يُصدقوا أن ما يشاهدونه هو التاريخ نفسه.. المسلسل ليس مجرد حكاية ماضٍ، بل هو اختراقٌ عنيفٌ للذاكرة الجمعية التي تئن تحت وطأة الهويات الممزقة.. كل لقطة هنا هي إبرة تُحقن في شرايين الأمة سمومَ الانقسام، وتستدعي أشباحاً تعرف كيف تتنكر بلباس “الدراما”..
انظروا إلى آلية الصناعة: ميزانية تُعادل اقتصاد دولة صغيرة، وفنانون من كل المذاهب والجنسيات، وتاريخ يُغتال بطريقة “البوفيه المفتوح”..يأخذون من كل رواية ما يشتهون، ويقدمون طبقاً هجيناً باسم “الفن”.. لكن هل يُدرك القائمون أنهم يحفرون في مقبرة جماعية بلا إذن أهل الموتى؟!
السيناريو هنا هو الجاني الخفي.. فكاتب العمل – خالد صلاح الصحفي الذي تعوّد على اجتزاء الحقائق لصناعة “الخبر الصادم” – يعالج التاريخ كأنه ملف تحقيقٍ عاجل.. ينقلب الحدث التاريخي إلى مجموعة “كليشيهات”: خيانة هنا، مؤامرة هناك، وبطل مغلوب على أمره في الوسط.. التاريخ يُختزل إلى مشاهد “إثارة” و”تشويق”، وكأن معاوية وعلياً شخصيات من مسلسل “صراع العروش”.. لكن الفرق أن دماء كربلاء ما زالت تنزف في قلوب الملايين، ولن تغفر للكاميرا أن تَلعقها كأنها ديكور!
المخرج – سيد المشاهد البصرية – ينسى أن أجمل معاركه لن تنقذه من سؤالٍ واحد: لماذا اخترت هذه الزاوية بالذات لتصوير مقتل عثمان؟ ولماذا أبرزت لقطة تسليم الحسن السلطة بهذا الإضاءة الدرامية؟ كل اختيار تقني هنا هو موقف أيديولوجي.. كل عدسة كاميرا هي عين مُتهمة بالانحياز..
أما الممثلون- المساكين – فهم ضحايا حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. “لجين إسماعيل” سيُحاكم لأنه لم يُشبه الصورة الذهنية لمعاوية.. و”إياد نصار” سيُتهم بنزع الهيبة عن علي.. والمفارقة أن الجمهور الذي ينتقدهم هو نفسه مَن يرفض قراءة التاريخ خارج إطار “المسلسلات”.. كأننا نعيش في حلقة مفرغة: دراما تنتج جهلاً، وجهلٌ يطالب بالمزيد من الدراما!
الدور الأكثر إثارة هنا ليس للممثلين، بل للمنصات الإلكترونية التي ستُحول كل حلقة إلى ساحة معركة.. ” إكس” سينفجر بتهكمات السنيين والشيعة.. “تيك توك” سيصنع ممثلين من عباقرة الهاشتاج.. و”يوتيوب” سيتحول إلى محكمة تاريخية بإيموجي السيوف.. المسلسل لم يعد عملاً فنياً، بل مادة خام لصناعة “الغضب الرقمي” الذي يغذي المنصات..
الأزهر – كعادته – يلعب دور “البطل المُتأخر”.. منع المسلسل أشبه بمن يُغلق باب المنزل بعد أن دخلت الجيوش عبر النوافذ.. لو كان جاداً في حماية التاريخ، لأعاد كتابته بلغة العصر بدلاً من تحنيطه في مكتبات المخطوطات.. لكنه يفضل أن يظل حارساً على مقبرة، خوفاً من أن تُفضي الأحياء أسرار الأموات!
اللعبة الأكثر قسوة هي استغلال الجرح الهوياتي للمشاهد العربي.. نحن شعب مهووسٌ بالمجد الضائع، فاشلٌ في حاضره، يعيش على “أفيون” الماضي.. المسلسل لا يبيع دراما، بل يبيع أوهاماً لأمة تبحث عن بطولةٍ في زمن الهزيمة.. معاوية هنا ليس شخصية تاريخية، بل هو “إنفلونسر” يصلح لزمننا.. يقدم دروساً في “السياسة الواقعية” لقادة اليوم، ويمنح الجمهورَ كبش فداء (يزيد) ليُفرغوا غضبهم عليه..
السؤال الذي يتهرب منه الجميع: مَن يملك حق رواية التاريخ؟ هل هو المؤرخ المدجج بالمصادر، أم المخرج الذي يمتلك كاميرا، أم الجمهور الذي يملك زر “الإعجاب”؟ الجواب الصادم هو: التاريخ يملكه الأقوى.. وفي زمننا هذا، الأقوى هو من يسيطر على الشاشة..
في الختام.. المسلسل يعرض الآن، والجدل من حوله يزداد، لكن الجرح سيبقى.. الدراما العربية تعيد إنتاج نفس الكارثة منذ عقود: تحول التاريخ إلى سوق نخاسة، تبيع فيه الأبطال والضحايا حسب مزاج السلطة.. ومعاوية – ابن السياسة البارع – كان سيهزأ منا جميعاً.. فها نحن نقتتل على ظله بينما جثث الحاضر تتراكم عند أقدامنا!