حواديت للبنت حتى تنام
وبما أننا فى خمارة القط الأسود ، فإن الحديث راح وجاء وتوقف هنا عند حواديت الفساتين وسيقان البنات التى اختفت من سنين طويلة، وقد انتاب السهرانين فى الخمارة حنين جارف إلى أيام رجاء الجداوى وصفحات الأزياء التى كانت تنشر عطرها فى المجلات الأسبوعية والشهرية والسنوية، وعاشت معظم تلك المجلات فى وجدان المصريات مع صوت ماكينة الخياطة التى كانت قطعة ثابتة من أثاث هذه الطبقة، وجزءا أساسيا من “جهاز” العروس، التى لا بد أن تدخل بها بيت الزوجية.
ومعظم بنات هذا الجيل وما قبلهن من ثلاثة أو أربعة أجيال لم تتمتع عيونهن بكل هذا الجمال، وتفتحت عيونهن على الخوف والقلق والهلع الذى تربى معهن وعشش فى البيوت وعقول الآباء والآمهات من تحريم كل شىء يخصها فخرجن من البيوت إلى الجامعات أو سوق العمل وهن يحملن هموما أكبر من أحلامهن، فهى (حرام ) والشارع لن يرحم (المحرمات) وسوف يستحل أجسادهن فى كل خطوة، وارتدت الفتيات الخوف وأشولة الملابس.
وليس المقصود من استعراض هذه الصفحات فى سهرة خمارة القط الأسود استعادة الحنين إلى الموضة، لكن المقصود هو أن يعرف السيد القارىء الذى سيغامر ويقرأ (فودكا) أن صاحب فودكا عاش هذا الزمن، ومازالت مصر بالنسبة له هى تلك الحياة الملونة بانطلاقها الحر المباشر، وإن كانت المجلات والصحف السيارة قد توقفت عن نشر سيقان العارضات، فهذا يخص الصحف السيارة والمجلات السيارة أيضا ولا يخص فودكا وصاحبها ،والأزياء هى فلسفة الشعوب وتعبير عن سلوكياتهم وحضارتهم ولم يكن المصرى القديم ـ وهو جدى وجد اللى خلفونى ـ عبيطا ولا ساذجا وأنت تراه محفورا على الجدران مرتديا أزياء الكاتب إن كان كاتبا أو الكاهن إن كان كذلك أو العامل فى الحصاد إن كان عاملا ، وستعرف الملكة من أزيائها والوصيفات وحتى فتيات الهوى، فلكل طبقة ملامحها التى تعبر عنها بأزيائها.
ليلى البنان
هدية السيدة كوكو شانيل إلى ليلى مراد
وظلت مصر تحافظ على ملامحها الخاصة بكل طبقة فترة الخمسينات ، ويحكى حسين أحمد كيف كانت مصر كل طبقات المجتمع تحدد مكانتها الاجتماعية بملابسها ، ومع دخول البنات الجامعات بدأت الخمسينات تشهد موجة جديدة من الألوان الصارخة كما يصفها حسين أحمد أمين :(كانت ملابس الخمس أوالعشر طالبات في دفعتي بكلية الحقوق بجامعة القاهرة في أوائل الخمسينيات، ليس في ألوانها أو تصميمها شئ يلفت النظر، وهن يسرن في غاية الخجل بين نحو ألف من الطلاب الذكور وقد التصقت كل منها بالأخريات خوفا من أن تلتهمن عيون الطلبة الذكور. لم يكن بين ملابسهن البنطلون أو الحجاب ـ ماذا حدث للمصريين؟ ).
كانت الموضة وصرخاتها تبدأ من هنا وأحيانا يصل صداها إلى العالم ،حتى أن بيوت الأزياء المصرية اعترضت عندما استعانت ليلى مراد بفستان من تصميم كوكو شانيل فى فيلم (حبيب الروح ) الذى أنتج عام 1954، وقالت الشركة المنتجة إن كوكو شانيل أهدت قطعتها الجديدة للفنانة ليلى مراد واطلقت عليها اسم ساحرة العرب، وكانت المجلات تفرد ملاحق خاصة لعروض الأزياء التى تقام فى فنادق القاهرة الكبرى والإسكندؤية أو فى الجمعيات الخيرية النسائية المتعددة آنذاك ، وانتشرت ألقاب (ملكات الجمال وملكات الإناقة وفاتنات الشواطىء)، وشهدت شوارع الإسكندرية ودمياط وأسيوط والمنيا ظهور عشرات الفاتنات وملكات الجمال ، ولم يقل عليهن أحد أنهن (عرايا )، ستأتى ثورة يوليو فيما بعد وتباع فساتين الملكات فى مزادات رخيصة ويتنقل الفرو من قصور جاردن سيتى لسيدات المجتمع القادمات مع الثورة كسيل جارف وتظل الطبقة المتوسطة محافظة على تماسكها، فمازالت فتياتها تتابع الموضة وتسعى للجديد منها ونجمات السينما يقدمن لوحات فنية راقية لشكل البنت فى مراهقتها وشبابها وحتى بعد زواجها.
ولم تتوقف محاولات مصممى الأزياء فى مصر للحافظ على الهوية المصرية فى كل صيحات الموضة التى تنقلها الصحف وتهتم بأخبارها على صدر صفحاتها ، وبدأت العائلاات من الطبقة الراقية تدفع بأبنائها وبناتها لدراسة فنون الأزياء ودراستها ،ومنهن فتاة مصرية قررت أن تضخ الروح فى الأزياء المصرية القديمة وتضع لمسات فرعونية وشعبية على الأزياء المصرية ، وهى ( ليلى البنان ) التى تفيض جمالا وحلاوة ،والتى سافرت إلى أمريكا عام 1961 لدراسة تصميمات الحلى والأزياء وعادت لتصبح أكبر مستشارة فى مركز المعلومات النسجية المصرية وتنجح فى إضافة لمسة مصرية ستصبح موضة لسنوات طويلة .
متى بدأ عصر السافرات والتائبات فى مصر؟
جاء عصر الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، وظهر طوفان ( بريونى ) للمحجبات، وبدأت مصر كلها تدخل دائرة اجتماعية جديدة مع الانتشار الرهيب لشرائط الشيخ عبد الحميد كشك وعذاب القبر، وخافت السيدات من الشارع ومن الذئاب التى بدأت تظهر وتتربص بها وبجسدها وبكل حتة مستورة فيها، أصبحت النساء هاجس المشايخ ونواب مجلس الشعب وملعقى مباريات كرة القدم، فالرئيس المؤمن سمح للغربان بالنعيق وفتح لهم الزوايا وبارك نشاطهم وضجت الشوارع بالذقون والجلاليب القصيرة !.
واستلمت الثمانييات مصر وقد دخلها (إسلام جديد) غير الذى تربى عليه الآباء والأجداد، وبدأت الفجوة الكبيرة بين أزياء الخمسينات والستينيات وأصبح القديم حراما حتى لو كانت جدتى وجدتك قد عاشتا فيه!أما الجديد فقد شمل الرجل قبل النساء وعرف الشارع المصرى الشورت الشرعى فى ملاعب كرة القدم وأطلق بعض اللاعبين اللحية مع الشورت الذى يمتد حتى الركبة، وتوارات ديفليهات عروض الأزياء وبدأت الصحف والمجلات ترتدى الحجاب هى الآخرى وتوقفت عن نشر صور ( عارية )!، وبينما كان الفنان حمدى باتشان يغنى ( إيه الآسا توك ده.. اللى ماشى يتوك ده ) كان (الآسى) الحقيقى قد وصل إلى الفن ، وظهرت موجة مثل التى نعيشها حاليا فى التكالب والتناكح والتهارش والتصارع أملاً فى الحصول على الجنسية السعودية، كان الجميع يحج إلى كعبة رجال الأعمال التى سيطرت على محلات الملابس والعطور وتجارة السواك وبول الجمل والإسدال وبوصلة القبلة والمسابح وشرائط الشيخ الحذيفى فى علبة من القطيفة، وظهرت هوجة الفنانات التائبات سواء بفلوس أو برغبة فى الحجاب والاعتزال ، وطالب الدعاة بإحراق أفلام التائبات أو المعتزلات ،وعقد الفنانون والمثقفون ندوات ومؤتمرات لإعادة الهوية المصرية التى تضيع وتندثر، وقاتلت الفنانات دفاعا عن سلوكهن وفنهن وأكل عيشهن، وتولد الخوف والرعب بعد الانفجارات التى حدثت لنوادى الفيديو فى أماكن عديدة، وتوجه” عادل إمام ” إلى إحدى قرى الصعيدـ التى عرفت إرهابا مسلحا ضد فرقة فنيةـ ليعرض مسرحيته “الواد سيد الشغال”،وعرض التليفزيون مسلسل “العائلة” الذى يحكى نشأة التيارات السلفية فى مصر وسلوكها الخاص والعام، وتحطمت محلات بيع الخمور وتم تهديد النساء على المنابر،واستخدم الدعاة كلمات ثقيلة على أذن المصريات ( السافرات.. والمتبرجات)، وامتد طابور التائبات ليشمل “سهير البابلى وشهيرة وشادية وهناء ثروت وسهير رمزى،.. حتى وصل إلى بطلى فيلم حمام الملاطيلى ” شمس البارودى ومحمد العربى “وزوجته هناء ثروت وتبعهما الفنان حسن يوسف ، وتفردت شمس البارودى بالنقاب واعتزل الفنانون:”محسن محيى الدين وزوجته نسرين ووجدى العربى، ووجد الاخير ـ الذى هو وجدى العربى ـ ضالته وأصبح مسؤلاً عن شركة “الريان ” للتراث ،بينما كان منتخبنا القومى يعود من بطولة كأس الأمم الإفريقية التى أقيمت بالمغرب ( 1988) يجر أذيال الخيبة والحسرة بعد خروجه من الدور الأول من دون أن يحقق سوى فوز واحد كان على منتخب كينيا المتواضع!،وظهرت المطربة منى عبد الغنى وهى تلف الحزام حول البلوزة فى أغنية “بينا يا اصحاب ” ليصبح الحزام موضة البنات قبل أن تسيطر بريونى وملابس المحجبات على الموقف تماماً.
جبهة ثقافية لإعادة هوية الأزياء المصرية
ضاق خناق الجماعات الأصولية على المجتمع المصرى وتغيرت سلوكياته بداية من ثقافة الأكل والشرب إلى الأزياء التى أصبحت خليطا من الباكستانى والخليجى وضاعت اللمسة المصرية تحت سيطرة النقاب والخمار والحجاب بصورة أوسع بكثير من كونها حالة دينية إلى توصيفها بحالة اجتماعية، واستشعر المثقفون والفنانون الخطر فصنعوا الأفلام والمسلسلات التى تحارب التطرف وظهرت مطبوعات التنوير، وبقى عالم الأزياء المصرية بعيدا حتى ظهرت ثلاث سيدات مثقفات دفعة واحدة (رعاية النمر وعزة فهمى وشهيرة محرز) ليبحثن من جديد عن هوية مصرية فى الأزياء بطرق ووسائل مختلفة جددت الأمل فى تقليص سيطرة الذوق الوهابى على المشهد .
التحقت (شهيرة) بالجامعة الامريكى لدراسة الكيمياء، لكن غرامها كان فى عالم الأزياء، وانشغلت مبكرا بفكرة الهوية المصرية فى الأزياء والحلى فدرست التاريخ الإسلامى وابتكرت الجلابية السيوى والفلاحى وزارت أقاليم لتوثيق تراثهم فى الأزياء والحلى ونجحت بمساعدة أستاذتها رعاية النمر فى تحقيق نجاحات كبيرة وجماهيرية لتصميماتها.
أما السيدة العظيمة (رعاية النمر) التى تخرجت فى كلية الفنون وعملت بالصحافة فقد أسست أول مركز للفنون الشعبية بهيئة قصور الثقافة وقدمت دراسات وتصميمات من وحى البئية المصرية فى النوبة وأسوان والواحات ، وزارت أكثر من عشرين قرية فى الدلتا والصعيد وبدأت فى تشكيل رأى عام ثقافى للتركيز على هوية الأزياء المصرية قبل إندثارها، انضم إليها الفنان الكبير سعد الخادم والمخرجة عطيات الأبنودى باإضافة إلى زوجها الفنان الكبير عبد الغنى أبو العينين، وأصبح هناك تيار فنى واسع يهتم بفكرة الأزياء المصرية بكل جوانبها وحدثت طفرة كبيرة خاصة فى الحلى والإكسسوارات المستوحاة من جدران المعابد ورسومات الفراعنة، خاصة مع ثالثة السيدات المصريات ( عزة فهمى) التى تخرجت فى كلية الفنون الجميلة عملت سبع سنوات فى مصلحة الاستعلامات ترسم النشرات وأغلفة الكتب حتى جذبتها (الفضة) فاستجابت للنداء وبدأت تصنع عالمها من تصميمات فرعونية ومصرية وجعلت من الخلخال موضة جديدة بنفس حجمها القديم قبل أن تظهر التصمميمات الصغيرة والأكثر إبداعا وتنوعا ، وهذا ما فعلته مع ( الكردان) الذى خرج من جميلات الحقول ليرتاح على صدور الهوانم، لكن طوفان الوهابية كان أقوى من هذه المحاولات ، وبقيت نبرة التحريم تطارد كل مايخص النساء ، لدرجة أن توفيق الحكيم ـ المشهور كذبا وزورا بعدو المرأة ـ أقول لك إن توفيق الحكيم جلس إلى مكتبه وراح يقص من المجلات ما يراه زيا إسلاميا محتشما ولا يثير الرغبات والشهوات كما يردد الدعاة الجدد.
الأزياء فى أيام القرضاوى والشعراوى وحسن عابدين
كاد السهرانين فى ( خمارة القط الأسود ) أن يصابوا بالملل وسط هذا الغياب لألوان الفساتين وحكايات عروض الأزياء القديمة والجديدة، فمازلنا فى حضرة التمانينات الكالحة ، حيث اندفع المصريون نحو شركات “الريان ” و”السعد” و”الهدى مصر” و”الهلال “، فالحرب العراقية الإيرانية تفاقمت ، وانهار اقتصاد دولة الكويت وتم الاستغناء عن العمالة المصرية، بل راح عدد كبير من المصريين يتجه إلى تصفية أوضاعهم والعودة والاستقرار تحت مظلة الأمان المحصن ببركة مشايخنا، وساعد المناخ الدينى السائد على انتشار شركات توظيف الأموال،فلا خوف على ” تحويشة العمر” وهؤلاء الرجال الذين تتدلى ذقونهم و ترتسم على وجوههم سمات الورع!، لا خوف وعلى قوائم المودعين وبين مسؤلى تلك الشركات كبار البلد ومشايخها بداية من الشيخ محمد متولى الشعراوى ذات نفسه ،وبجواره وزير داخلية السادات “النبوى اسماعيل” وكان يعمل مستشارا فى شركة الريان، بخلاف مئات من الفنانين ولاعبى كرة القدم ونجوم التليفزيون والكل يبارك ويشارك فى البركة والأرباح، وها هو الشيخ يوسف القرضاوى يؤكد أن تجربة المصارف الإسلامية تستحق التشجيع لأنها لا تعرف الربا، بينما يقف حسن الجمل نائب الإخوان تحت قبة البرلمان ليقول “إن شركات توظيف الأموال تُحارب لأنها تعمل باسم الإسلام “!، وكان خبر تنازل أعلى هيئة إسلامية فى المملكة العربية السعودية عن فوائد بنكية بلغت خمسمائة دولار فى البنوك الاجنبية دليل وبرهان على أن فوائد البنوك “رجس من عمل الشيطان”، والخير.. كل الخير فى الأرباح الحلال التى تقدمها شركات توظيف الأموال !، وانتشر اسم “عبد الرحمن” وحمزة “و”إسلام ” فى أحياء مصر كلها تقريباً، بينما كانت ” آيه وإسراء وشيماء ” الأكثر شيوعا بين الإناث.. وفى كل ليلة كان الناس يبحثون مع الفنان حسن عابدين عن (سر شويبس )، ولكن أين الأزياء فى الموضوع.
عالمى موقع رائع وموضوعات شيقة جدا جدا وأعتقد أنه هايكتسح ويكسر الدنيا مع العالمى اشرف عبد الشافى