كثيرون كانوا مسئولين عن النشر في هيئة قصور الثقافة أقوى دار نشر في مصر؛ لأنها المكان الوحيد الذي ينشر الكتاب المدعوم، ويكفي أنك لن تجد مكتبة مصري تخلو من عدد أو أعداد من الذخائر وذاكرة الكتاب، وقلما تجد كاتبًا ليس له كتاب فيها، حقق معظم المسئولين رغبة الجماعة الشعبية المصرية في أن يكون لها قلم وكتاب.
كثيرًا ما كانت كتب قصور الثقافة تقيم الدنيا ولا تقعدها، ودائمًا ما كانت هذه الكتب تدخل في بناء القارئ المصري؛ كل حسب هواه، وحسب تخصصه، ورغم تراجع كثير من أنشطة القصور وانحسارها فإن كتبها ظلت لا تتراجع ولا تنحسر.
قبل ثورة يناير المجيدة كانت كتيبة النشر تعمل بكفاءتها، ومع الثورة فاجأتنا بإصدارات منوعة ومهمة منها تاريخ الجبرتي وتاريخ البطاركة وشخصية مصر هذا إلى جوار استمرار صحفها ومجلاتها، صحيح أن هناك إصدارات ضعيفة التوزيع لكن هل كان محتواها ضعيفًا؟ وهل النشر الحكومي يستهدف التوزيع عبر البيع فقط أم أن هناك مكتبات في قصور الثقافة وبيوتها تستوعب وتقول هل من مزيد.
جاء جرجس شكري ليجد نفسه في تحدٍّ كبير؛ إصدارات تنفد فور صدورها، رؤساء تحرير لهم رؤى يريدون تحقيقها وفي المقابل ارتفاع في أسعار الطباعة وثبات إن لم يكن تراجع، وقد كنت شاهدًا على بعض الخلافات الطبيعية التي عولجت بمنطق الكبار رغم تقافز الثعالب.
سارت سلاسل النشر، وفوجئنا بمشروعات ملهمة “الهوية المصرية” و “روائع المسرح العالمي” هذا إضافة إلى مشروعات المعارض فحين كانت اليونان ضيف شرف وجدنا الإلياذة والأوديسة – ترجمة أمين سلامة – ومعهما معجم الأساطير اليونانية ومجموعة كاملة من الأعمال اليونانية العظيمة، وحين جاء دور العميد وجدنا زوار المعرض يهرعون إلى جناح قصور الثقافة ليملأوا حقائبهم بأهم أعمال طه حسين.
في جلسات الأصدقاء كان جرجس يشكو من الظروف المحيطة به، وهي ظروف محبطة لكنني كنت أقول له: لا أحد يصعد على الرمل.. وحين تصعد الصخرة تتحول إلى درجة سلم، أكمل.
درة التاج في أعمال جرجس شكري خلال سنوات عمله هي سلسلة الهوية التي أرى أن إعادة طباعة هذه المجموعة النادرة واجب وطني على وزير الثقافة أن يقوم به، وعلى وزير التعليم أن يجعلها في مكتباته فهي أرخص ثمنًا من الكتب التي تزود بها مكتبات المدارس وأعلى قيمة بما لا يقارن مع أي كتب أخرى.
تبدأ المجموعة بكتاب “فجر الضمير” ترجمة العظيم سليم حسن، وتستمر بروائع الفكر المتمحور حول مصر، ولعل ما يدعوني إلى مطالبة وزيري الثقافة والتعليم بما طالبتهما به، هو أنني حين فتحت كتاب اللغة العربية للصف الأول الإعدادي وجدته يفتتح بنص استماع من مقدمة سليم حسن لفجر الضمير.
تخيلت كل طالب في مصر يقرأ هوية بلاده بألسنة العرب والغرب، بلغة العلم والتاريخ والأدب والفن، ورغم اعتراضي على أن تقوم دار نشر خاصة بتأليف الكتب المدرسية –وهي في الوقت ذاته مؤلفة كتب خارجية – مع وجود مركز يتبع وزارة التعليم اسمه مركز تأليف المناهج، ومع وجود أخطاء لغوية وتربوية وعلمية داخل هذه الكتب، فإنني شعرت بالسعادة لوجود مقطع من كتاب يعترف بأن مصر هي فجر الضمير.
أقول لنفسي: ستمر الهوية المصرية تسير في عروق الأرض والرجال.. فيكون انتصارها ظاهرًا كما فعل جرجس، أو خافتًا على استحياء لأن مؤلف الكتاب العبقري! جعله درس استماع يكتفي الطالب بالإجابة عن أسئلته دون الغوص في مضامينه وجمالياته، ولو اكتمل نصاب مصريته لوضعه مكان مقال ثروت أباظة.. لكن نصف الإبصار سيأتي بالإبصار كله.
أقول لنفسي: في عام 2020 حمل جرجس على عاتقه مهمة طباعة مشروع الهوية المصرية، ودعمه وقتها د. أحمد عوض رئيس الهيئة، ود. هاني كمال رئيس الإدارة المركزية للنشر، وعبد الحافظ بخيت مدير إدارة النشر، وأشرف على التنفيذ د. عماد مطاوع.. فلماذا لا ندعه يكمل هذا المشروع؟ ولماذا لا يكون هذا المشروع مشروع دولة؟