ريم صالح
جمعت بين روحين أزليتين ..حواء في نقاء روحها.. وليليث في تمردها.. فشخصياتها الاسطورية تعبر عن المشاعر المشتعلة الكامنة في النساء .. الآمهن ورغباتهن وتشوهاتهن وأحلامهن.. طبعا فهي راعية الحديقة الأبدية .. سعاد عبد الرسول التي حولت قماش التوال الأبيض لدراما لونية.. فالروح المصرية الروح حاضرة بسيطرة الأزرق وسمار الشخصيات .. وتشويه الشخصيات الذي يجمل الحياة .. ويعيد المتلقي لبدائية المرأة الأولى.
منذ نشأتها في حي شبرا، كانت الألوان هي بوصلتها الأولى، لكنها لم تدرك بعد أنها ستقودها إلى عالم التشريح، حيث اكتشفت أن تكوين القلب والرئة وحتى البكتيريا تحت الميكروسكوب يمكن أن يكون منبعًا لخيال لا ينتهي. هذا المزج بين الدقة العلمية والاندفاع العاطفي هو ما ميّز أعمالها لاحقًا، فانعكس على شخوصها المشوهة التي تحتفظ بجمالها الداخلي، حيث يبدو الألم وكأنه جزء من تكوينها الطبيعي.
حملت لوحاتها طابعًا وحشيًا، يختلط فيه الأزرق العميق، رمزًا الروح المصرية، مع تشوهات تجعل الجمال أكثر صدقًا وعمقًا. ولعل هذه المفارقة بين هدوئها الظاهري ووحشية أعمالها جعلت الكاتب حمدي أبو جليل يصفها بـ”معجزة البنت العادية”، فهي تبدو كشخص بسيط، لكن عالمها الداخلي يضج بالحكايات والصراعات.
بين الفن والاستقلال
لم يكن طريقها في الوسط التشكيلي مفروشًا بالورود، فقد واجهت التحديات بروح الفنانة الحرة. رغم تفوقها الأكاديمي، وجدت نفسها مستبعدة أحيانًا، فقط لأنها تجرأت على امتلاك رأي مختلف. ومع ذلك، لم تتوقف عن الرسم، بل سلكت طريقًا موازيًا، عملت كمصممة جرافيك لمدة عشر سنوات، ليس فقط لضمان استقلالها المادي، ولكن كي لا تكون مثل الكثير من الفتيات اللواتي يتم التغرير بهن تحت مسميات مختلفة. تؤمن أن الفنان الحقيقي بحاجة إلى نظام رعاية، يحفظ له كرامته ويوفر له مساحات للعرض والنمو، كما هو الحال في الدول التي تدعم فنانيها بآليات واضحة وشفافة.
ورغم أن الكثيرين يلجؤون إلى إنشاء مشاريع فنية لضمان استمراريتهم، إلا أن سعاد لم تفعل ذلك، لأنها لا ترى نفسها في الفن التجاري. فهي لا تسعى إلى إنتاج “منتجات فنية”، بل تكرس نفسها لما هو أعمق، لبحث داخلي مستمر لا يقتصر على اللون والخط، بل يمتد إلى الوعي والمفاهيم.
الذائقة الفنية والتحديات
ترى سعاد عبد الرسول أن الذائقة المصرية ما زالت تتلمس طريقها نحو الفن المعاصر، إذ لا تزال أسيرة للفن الديكوري الذي يُعامل كقطعة تكمل الفراغ، وليس كنافذة تفتح على عوالم أعمق. ومع ذلك، فإن لمصر بصمتها الفنية الخالدة، تظل منارة يجذب ضوؤها الفنانين من كل حدب وصوب، فتمنحهم فرصة للانغماس في مشهدها الثقافي العريق والمتجدد. وفي رحلاتها المتعددة عبر القارة الإفريقية، لمست حضورًا قويًا للفن المصري في كيب تاون ونيجيريا والسنغال، غير أنها تحلم بأن يمتد هذا الحضور، ليترسخ في قلب إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتجه الأنظار العالمية نحو الفن، وحيث يستحق الإبداع المصري أن يحتل مكانته التي تليق به.
الفن والمرأة.. معركة مزدوجة
في عالم يتشكل وفق موازين غير عادلة، وجدت سعاد نفسها في مواجهة تحديات تتجاوز مجرد الإبداع، كونها امرأة في ميدان لا يزال منحازًا للرجال. فبرغم ما أتاحته حركة الفيمينيزم من تسليط للضوء على قضايا المساواة، يبقى الفن حقلًا صعبًا للنساء، إذ تحظى أعمال الرجال بفرص أوسع في المعارض والمتاحف، وحتى في دوائر الاقتناء.
لكن سعاد لا تؤمن بالفصل بين الفن والجندر، فالفنانة ليست مجرد انعكاس لأنوثتها، بل هي كائن يحمل دهشته الخاصة، روحه المشبعة بالأسئلة، وتجاربه التي تتجاوز القوالب الجاهزة. لهذا، لا تهادن في أعمالها، ولا تقدم لوحاتها على أنها “لوحات أنثوية”، بل تطرحها ككائنات فنية مستقلة، نابضة بالحياة والتحدي، ترفض أن تُختزل في تصنيفات ضيقة.
رحلة مستمرة
ولأن الإبداع لا يعرف حدودًا، لم تكتفِ سعاد بالريشة، بل امتدت أصابعها إلى الحروف، حيث تعمل على إصدار ديوان شعري، كأنها تُحوِّل لوحاتها إلى كلمات، وتسكب روحها في قصائد تعيد تشكيل العالم كما تراه هي. لا تزال حديقتها الأبدية مفتوحة، تنمو فيها الأشجار بألوان زرقاء، وتتماهى الأحلام مع الوجوه المتشظية، في سعي دائم لتحويل الألم إلى جمال، والتشوه إلى حياة.