رسومات شيري سامبا
ريم صالح
عندما أرى العميد جول ثانية، عندما يكون متمتعا براحته، أتطرق الى الحديث عن التعذيب. أسأل ماذا لو كان سجينك يقول الحقيقة، ومع ذلك لا يجد من يصدقه، ألا يعد الامر فظيعا؟ تخيل أن تستعد للاستسلام، وتستسلم، ثم لا تمتلك شيئا تستسلم له، تتحطم، ومع ذلك يضغط عليك للاستسلام أكثر! كيف يمكنك أبدا أن تعرف ما اذا كان سجينك يقول الحقيقة؟“
كسر الإرادة … القهر .. الانهيار .. انها طريقة الكاتب ” ” .. والأكثر تعبيراً عن معاناة شعب جنوب افريقيا والذي تجسد في روابته الشهيرة “في انتظار البرابرة” .. التى تجسد الآلام التي عاناها الجنوب إفريقيين السود على يد المهاجرين البيض “شعب البوير” سواء أكانت معاناة جسدية بالتعذيب المباشر أو معاناة نفسية نتيجة للترحيل والطرد والتهجير القسرى، لكن فى أسلوب هزلي ساخر جاء على لسان البطل الرئيسي القاضي العاجز عن تغيير اي من مجريات الاحداث.
واحدا واحدا يؤخذ الصياديين لحيث كان العميد مستقرا؛ ليسالوا ان كانوا قد شاهدوا حركة غرباء؟ الطفل أيضا تم استجوابه “هل قام غرباء بزيارة والدك أثناء الليل؟ ( أخمن بطبيعة الحال ما يدور في الغرفة، أخمن الخوف والحيرة والارتباك والشرود)
لا يعود السجناء الى الساحة بل الى الثكنات، الجنود قد تفرقوا، أجلس في غرفتي نوافذي مغلقة أحاول القراءة، في سخونة الجو المضغوط لمساء بلا ريح، أجهد نفسي أن أسمع أو لا أسمع أصوات العنف.و أخيرا في منتصف الليل يتوقف التحقيق، ويخمد اصطفاق الابواب ووقع الخطى، الساحة ساكنة تحت ضوء القمر، عند ذلك يؤذن لي بالنوم!!
في انتظار البرابرة
كتابات كوتسي مليئة بالغضب والالم .. كتابات سوداء لا تقل سوادا عن الممارسات الاحتلالية والتفرقة العنصرية.. مع نقد للقيم التحضرية الزائفة للحضارة الاوروبية البيضاء!!
كوتسي الحائز على نوبل للآداب عام 2003 (وهو ليس الوحيد الذي فاز بها من جنوب افريقيا فقد فازت بها أيضا البيضاء “نادين جورديمير” ) يقدم في روايته “في انتظار البرابرة” انتفادات حادة للمفهوم الغربي والنظرة الاستعلائية للبيض تجاه السود، فبينما يردد الحاكم العسكري الأبيض فى الرواية تعبير ” البربرية ” لوصف الأفارقة السود،نجد “كوتسي” بقدم وصفاً دفبفاً لتصرفات وأعمال هذا الحاكم تؤكد مدى ” بربريرته ” بل وعنفه اللإنسانى تجاه هؤلاء الذين يصقهم بالقتلة والمجرمين .
الرواية تستقصى الأعمال العنيفة شديدة الوحشية التي قام بها حامو حمى الامبراطورية البيضاء تجاه السكان الأصليين للأرض ، رواية كوتسي كشفت عن روعته في عرض الفظائع التي ارتكبها الإنسان الأبيض “المتحضر” بشكل أكثر قسوة وكأنه أراد إثبات تاريخ حاول الإنسان البيض محوه وإبادة كل ما يشير إليه حتى تظل الصورة الكاذبة والمزيفة والمسيطرة على الوعى البشرى تدهى أو تزعم أن وجوده في افريقيا لم يكن استعماراً وقهراً بل مهمة انسانية بحته!! وربما تكمن أهمية العمل الروائى فى هذه الناحية التى تؤرخ للبشر باعتبارهم الأبقى من كل تزييف للتاريخ ، إن عذابات البشر التى تكاد تقطر دماً بين سطور الرواية ليست روعة فى أسلوب الوصف وامتلاك أدوات الكتابة بل هى نحت بحروف بارزة لتاريخ أراد المستعمر الأبيض العنصرى أن يتلاعب به ، وما أشبه اليوم بالبارحة فمازال الوجود الابيض يتسبب في جرائم أقلها الاغتصاب تحت سمع وبصر القوات الاممية الموفدة لحفظ السلام وغيرها.!!
ليس اغتصابًا، ليس بالضبط، إلا أنه مرفوض، مرفوض حتى النخاع، كما لو أنها قررتْ أن تخمد، أن تموت في نفسها فترة، كالأرنب حين يقترب فكَّا الثعلب من عنقه، وكأن كل ما يُفعل بها يُفعل، إذا جاز التعبير، بعيدًا
العار
وفي “العار” يعيد استخدام إسلوبه التهكمي في السخرية من النزعة العقلانية القاسية، والأخلاق المزيفة للحضارة الغربية .. بعرض مجتمع ما بعد انتهاء الفصل العنصري وهو الفعل الانساني القبيح (كون البشر هم وحدهم من يقوم به من حيوانات الارض) .. واستخدام الانسان الابيض “البطل” لنفوذه وسلطاته (استاذ الجامعة المعبر عن جيل الفصل العنصري) من أجل إغتصاب ما ليس من حقه من تلميذته السوداء (المعبرة عن أرض جنوب افريقيا).. لتغتصب ابنته تاليا وتلد طفل هجين من مغتصبها الاسود وكأن هذا الهجين هو تحد سافر للمظالم التي ارتكبها الاب الابيض .. إرثه .. عاره.. إن كوتسي في “العار” يعيد طرح ومناقشه الافعال المخزية التي ارتكبها البيض في القارة الافريقية لكن باسلوب أقرب الى الرمزية .. فالاب الذي رفض الاعتراف بجريمة الإغتصاب لإعتقاده أنه صاحب الحق حسب تصوره عن الافارقة من فاقدي العقل والاهلية والشعور، مضطر الان للعيش مع حفيد هجين وسط مجتمع تقليدي أسود ليظل كل ما حوله يذكره طول الوقت بفعلته الشنيعة.
كانت “العار” إدانة واضحة للسلطوية الاوروبية الاستعمارية التي انتهكت القارة الافريقية دون أي بادرة لابداء الندم عن افعال الماضي، ولا توقف في الحاضر عن مزيد من هذه الانتهاكات.
حياؤك وادبك يمنعانك من التفوه بألفاظ الفحش والدعارة فأنت مقلوم الظفر عن أذى الاخرين .. تجفل من تخطي الاعراف والتقاليد المرعية
يوميات عام سيء
الحقيقة أن قيمة كوتسي الادبية لا تقتصر على كونه ناقدا للظلم الانساني الذي أصابت نيرانه الانسان الافريقي وذلك لكنه مختلفا في اللون؛ لطكن حتى على مستوى الابداع فقد اضاف كوتسي الكثير للمكتبة الانسانية من حيث استخدام اللغة الثنائية الحاملة لاكثر من معنى، تم تخطى ذلك بابتكدار اشكال جديدة للكتابة والتعبير عن رأيه بمختلف الصور. فقد قام بالمزج ما بين المقالات والرواية في روايته “يوميات عام سيء” حيث جدد في شكل الكتابة: حيث يتوج أعلى الصفحة المقسمة الى 3 اجزاء مقالات للبطل “المؤلف” تعبر ان ارائه .. توجهاته .. قناعاته .. في امور مختلفة ومتنوعة مثل نشاة الدولة والأرهاب والديمقراطية وتنظيم القاعدة وانفلونزا الطيور وشخصية توني بلير .. والتي سيجدها القارئ معبرة عن سياق الحدث الروائي لكنها صادمة في نفس الوقت.
ثم يأتي الجزء الثاني في الصفحة فقد خصصه لبطلة الرواية “أنيا” مساعدته وجارته التي تكتب رواياته وتدرج علاقته بها من الكراهية وحتى العشق، لكنه يظهر هنا كراو (نسوي) فقط يشرح ويصف مشاعر البطلة الساذجة دون تدخل منه، كل ذلك في شكل قصصي.
وفي الجزء الثالث تظهر الرواية عبر سرد تفاصيل تلك العلاقة بين البطل “المؤلف” والبطلة “أنيا” المساعدة ومحاولات صديق البطلة السخرية من الرجل العجوز “البطل” ثم محاولة سرقته في النهاية لتكتشف البطلة مدى جشع صديقها وتقع في غرام الرجل العجوز ثم تقرر الرحيل.
هذا الدرب الجديد في الكتابة الذي عبده كوتسي، ربما جاء تخليد لافكاره كونه من الشخصيات الخجلى التي ترفض إلقاء أي محاضرات لدرجة رفضه إلقاء محاضرة بعد فوزه بنوبل.. أو ربما إمعانا في مفاجئة الجميع بأراء صادمة وهو من إعتاد على ذلك .. لكن الحقيقي ان تلك الطريقة وهذا الدرب من الصعوبة والتجديد بمكان يجعل ابتكار طريق جديد شبه مستحيل.
كوتسي في أغلب رواياته يعبر عن ذاته فان ظهر بشكل مستتر وحيي في “انتظار البرابرة” في شخصية القاضي الرافض للتعذيب والاستعمار، بدا في الظهور الجلي والواضح في روايته “الشباب” ويوميات عام سيء” و”الرجل البطيء” وكأنه يود لفت انتباه القراء انه يكتب ذاته بمنتهى الصدق والعفوية لكنه مصر على ان يكون كل ذلك النقد اللاذع للثقافة والسياسة الانجلو سكسونية في اطار سوداوي ساخر مع ثبات حبه للتغيير والتجديد فقد تعمد الا يشبه كتابًا الأخر أبدا .. وإيمانه بالانسانية في إطارها الاوسع.