ديستوبيا ـ ولاحظ أنها تكررت ثلاث مرات قبل أن نصل إلى معناها ـ فديستوبيا يا سيدى تعنى المكان غير الممكن فى وقاحته أو دناءته ، خيالى فى قذارته وروثه وشكل البشر الموجودين فيه ، وفى مثل تلك الديستوبيا ـ المدينة التى أصبحت لا تحتمل ـ عاش بليغ حمدى وعشرات من العباقرة عاشوا فى أمكنة وأزمنة (ديستوبية ) أهانتهم وحرضت ضدهم وأنكرت عليهم فنونهم وعبقريتهم ، وعندما كتب جورج أوريل روايته الخالدة 1984 كان يتنبأ بمستقل ديستوبى جدا للعالم ، فقد كتبها فى 1949 ولكنه شاهد عالم الاتصالات الذى سيجعل العالم مرتبكا وظالما وفاسدا مثل تلك المقاطعة التى تتحدث عنها الرواية ، والعجيب أن ما جرى مع بليغ حمدى وقع فى العام 1984 (!) ، وفى أبهى صورة الديستوبيا وجد بليغ حمدى نفسه (الخطيئة) بذات نفسها تسير على الأرض !!،فى يوم وليلة أصبح داعراً وقواداً وفاتح شقته للنسوان وبنات الليل ، ولم تلك تلك همسات أو نميمة فى أروقة الكباريها والمراحيض العامة ، لكنها كانت المدينة بأكملها بإعلامها وممثليها ومطربيها وراقصاتها وفيتات ليلها والكل يهتف بالفضيلة والشرف ويطالب بقتل المجرم الفاجر .
1984 .. فى هذا العام كان بليغ حمدى قد بلغ المجد الذى لم يبلغه سواه بالتلحين لأم كلثوم ، كان أيضا قد هزم المقاطعة العربية بعد كامب ديفيد وجعل القاهرة كعبة الفن التى تطوف حولها أصوت المدن العربية العراق وسوريا وتونس والمغرب (سعدون جابر ،ميادة الحناوى ،لطيفة ،وعزيزة جلال)، كان قد بكى النكسة فى (موال النهار) ،وصنع ملحمة أكتوبر الغنائية مع أم الصابرين ..، كان قد دخل محراب مولانا النقشبندى وهتف الشيخ للفنان المعجون بماء العفاريت ( سبحان الله! ).
وفى هذا العام أيضا 1984 استيقظ المصريون على أسوأ حملة صحفية شهدها العصرالحديث ،أصبح فيها اسم مطربة مغمورة (سميرة مليان ) مثيراً للفضول والتشويق والإثارة الحسية بعد مصرعها فى شقة الفنان بليغ حمدى الذى كان قد صنع كل هذا المجد ، أضيفت كل عناصر الفلفل والشطة والكمون واكتمل الهياج بأسرار عن سقوطها عارية وعدد الحاضرين من الفنانين والفنانات الذين غرقوا فى الخمر والحشيش والمداعبة! ، وكان بليغ الذى حدث كل ذلك فى شقته هو المقصود، وقبل أن يصدر أى حكم كانت حملة مضغ لحم بليغ قد انطلقت حتى بلغت المدى الأخير من الوضاعة حين كتب أحدهم :إن بليغ ،وإن لم يكن متورطا فى قتل الفنانة المغربية فهو على الأقل ” قواد يفتح بيته للعهر “!!، وأندفع الفنان الكبير أحمد زكى ليصرخ : ” .. بلد بتقول كده على بليغ حمدى عمر ما تقوم لها قومة ” !
و لمدة عامين ظلت القضية متداولة ،وإرتبك الناس ولفت رأس بليغ كما لم تلف،وظهرت إعلانات فى الشوارع عن فيلم سينمائى يحمل اسم قضية سميرة مليان تم إنتاجه على عجل لترسيخ صورة للفنان الذى (فتح بيته لأعمال منافية للأداب!!) .. هل هناك أحط ؟!.
فى عام 1986 ، أى بعد عامين من فتح التحقيقات ،أصدرت محكمة جنح العجوزة فى 11 فبراير حكما بالسجن عاما عليه!!، ولم يسمع أحد صوت رجال قانون وهم يطالبون بمسوغ قانونى لهذا الحكم !.
ولم يتحمل بليغ بالطبع ،وسافر الى باريس ومنها إلى لندن لمدة 5 أعوام كانت هى الأصعب فى حياة الفتى بليغ ،وفى عام 1990 ،وبعد الجراح ما نزّت، أنصفّ القضاء بليغ وتمت تبرئته من القضية الوهمية!.
اقرأ ايضًا:
كنت وقتئذ طالبآ في الصف الثالث الثانوي وكنت اتحسس الخطي نحو الأدب والفن وسمعت إن بليخ الملحن الأشهر في مصر متهم في قضية قتل وكان المنطق يقول كيف لهذا الفنان أن يقتل لابد هي مكيدة ، واي مكيدة ….تشاء الاقدار ان يعود الفنان وعودت انا وقتها كنت في الكويت والتقيت بالمخرج هشام ابو النصر في مقهي الفيشاوي في الحسين واتفق معي ان نذهب إلي الفنان لكن للاسف لم تسمح ليه الظروف بلقاء هذا العملاق…
محسن خزيم روائي وقاص