لوحة المرأة والديك للفنان حامد ندا
الصورة المبهجة التى أصبحت عليها المملكة العربية السعودية تجعلنا نسأل عن المبدعين والمبدعات الذين مهدوا لكل هذه الثورة الجديدة والتى كانت مستحيلة قبل 7 سنوات تقريبا، ولا أعرف هل تم إغداق الأموال عليهم لدورهم التنويرى أم أن أحدا لا يتذكر الكتابة إن جاء الحدجيث عن الأموال، كل شىء تغيّر وتجددّ فى المملكة، تحطمت أصنام وسقطت سلطة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأصبحت هناك سينما ومسارح وملاهى ومدينة كاملة للترفيه، كل ذلك لم يحدث فى يوم ليلة إلا بالنسبة لهؤلاء المهرجين الذين لا يعرفون كم كان الأمر صعبا وشاقا على الأدباء عموما والأديبات بشكل خاص، فالأجواء جاهلية بمعنى الكلمة، ووصاية دينية مفرطة تسيطر على ربوع المملكة فما بالك بالأدب ؟! أقول: غريب أن ننسى الدور الكبير الذى قامت به مجموعة من الكاتبات ـ أو المغامرات إن شئت الدقة ـ مطلع التسعينات وحتى الألفية الجديدة، غريب أن ننسى كم كانت الكتابة حراما مثلما المرأة نفسها!، غريب أن ننسى أنه وسط كل هذه الأجواء ظهرت عشرات الكاتبات الصغيرات اللائى صنعن دويا هائلا بكتابات هزت أرجاء المملكة آنذاك، أذكر منهن فتاة صغيرة اسمها (سمر المقرن) قلبت الرياض والدنيا كلها بروايتها نساء المنكر غير المسبوقة فى المملكة بجرأتها وشجاعتها فى كسر التابوهات الدينية من خلال عمل روائى يسخر من هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى جعلت كل شىء منكر وحرام ، فيضطر الشباب إلى هجرة المدينة والالتقاء بعيداً عن رقابة الذقون الطويلة ، والرواية فى مجملها عبارة عن صرخة جيل من فتيات المملكة فحين صدرت نساء المنكر كانت المؤلفة فى الخامسة والعشرين تقريبا من عمرها، وصنعت دويا مدهشا جعل دار الساقى تعيد طباعة الرواية أكثر من مرة ، وقبلها بقليل كانت دار
الساقى قد أصدرت فى 2006 رواية (الأوبة) للكاتبة السعودية وردة عبدالملك ،ولم تكن تقل فى جموحها وجرأتها عن سابقتها ، بل إن وردة تصل إلى ذروة الجرأة وتستخدم عبارات حسية واضحة من خلال علاقة التلميذة سارة باستاذتها ومرشدتها الدينية أو الموطوعة التى تسعى لتزويج سارة من شقيقها المرتبك عقليا ، ولا تخجل الكاتبة من وصف تفاصيل ليلة الدخلة وتسمية الأعضاء الجنسية فى لغة قد تصدم القارىء، كل ذلك وأكثر حدث فى المملكة من ارهاصات أدبية ومغامرات كانت أشبه بشرارة جيل يسعى إلى التغيير وعندما جاء التغيير اختفى من المشهد، وليست سمر المقرن ووردة عبد الملك سوى نموذجين فقط ذكرتهما لما أحدثتاه من دوى هائل كان أشبه بالبطولة آنذاك، وتلك ميزة العملين وأهميتهما، لا أحدثك عن تجارب كبيرة فى الرواية العربية ولكننى أحدثك عن تجارب مبكرة لفتيات موهوبات وجريئات اقتحمن الممنوع قبل أن يصبح الأمر سهلا على نحو ما نرى ونشاهد خلال السنوات الست الماضية ،فقبل أن يظهر أبو ناصر ـ مع كامل الاحترام والتقدير والخوف ـ طبعاـ، كان الأدب السعودى يحاول بكل وسائل التعبير أن يكسر كل هذه القيود التى تجعل البلد كئيبا ومؤلما وبلا ذكريات فى الوجدان، فالسعوديون يلتقطون الصور فى كل بلاد الدنيا من برج القاهرة حتى برج أيفل باريس وتجمعهم الذكريات مع كل الأوطان إلا وطنهم الذى حرمهم حتى من الذكريات.
أقول لك إنه فى أثناء تلك الأجواء الضبابية ظهرت كاتبات عديدات لا تسعفنى ذاكرتى بكثيرات منهن وأتمنى أن تجد تجاربهن اهتماما باعتبارها ارهصات أدبية سبقت ثورة الثقافة والأدب والفنون، وهى تجارب ليست لقيطة بل لها آباء وآمهات ورائدات تأتى الكاتبة بدرية البشر على رأسهن مع عشرات الأدباء من الرجال أيضا ،فقبل سنوات من الآن كنت فى حوار مع الكاتب السعودى المرموق (فهد العتيق) حول وضع المثقف فى المملكة فقال بتنهيدة الآسى والسخرية الحزينة “إنهم فى أسوأ حال يا صديقى”، وتحدث عن التحريض ضدهم من مشايخ الفتوى والمنابر وكيف تحولوا أمام أولادهم وزوجاتهم وعائلاتهم إلى دعاة فجور وعُرى، وأن الصورة العامة التى يتم تصديرها عنهم تتجاوز حدود العقل، لكن نقطة النور أصبحت اليوم بقعة ضوء كبيرة، ومع ذلك فلم أسمع صوت فهد بعد تلك الثورة الكبيرة التى كان واحداً من المقاتلين من أجلها، فهل اختفى الإبداع وتراجع أمان الترفيه؟ ربما يجيبنى فهد العتيق.
بدرية البشر .. فلسفة الفعل الفاضح فى قيادة السيارة
فى 2014 نشرت الصحف السعودية خبراً صغيراً عن زوج فوجى بمجموعة من الرجال الغلاظ يداهمونه فى سيارته ويسحبونه وزوجته!، لم يستطع الرجل أن يفعل شيئاً ، رفع يديه واستسلم لهؤلاء الذين ضبطوه مع زوجته !، لم يكن الزوج يفعل شيئاً مما دار فى رأسك ورأسى، فقط كان يعلمها القيادة !وهذا فعل فاضح كفيل بالقبض عليهما ، والتقطت الروائية السعودية الكبيرة بدرية البشر الواقعة وكتبت مقالاً رائعاً عنها،وتعرضت لحملة انتقاد واسعة باعتبارها تسخر من العقوبات الشرعية التى فرضتها هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر!
إن ما حدث مساء السابع والعشرين من سبتمبر 2017 من السماح للسيدات بقيادة السيارات لم يكن أمراً ملكياً عابراً بقدر ما كان حصاداً لرحلة كفاح طويلة وشاقة خاضت غمارها بدرية البشر وجيل الشباب الذى ذكرناه من قبل.
!وبالطبع لم تكن تعلم هذه “بدرية البشر” إنه بعد ثلاث سنوات من مقالها ستعيش المملكة لحظة تاريخية ويتم السماح للسيدات بقيادة السيارات والحافلات دونما أن يضبطها أحد ويلقى عليها القبض بتهمة ” الفعل الفاضح “، وبدرية البشر هى سيدة الكتابة السعودية فى السنوات العشر الأخيرة من وجهة نظرى، فالفعل الفاضح هو القبض على زوجين وليس ما يتم اتهامهما به ،وهكذا فكانت شعلة تنوير وحيدة تنطلق بهدوء وعقلانية لتضىء بعض جوانب الفكر فى المملكة وتفضح الفعل الفاضح الذى يجعل مجموعة النهى عن المنكر تتحكم فى مصائر وتصرفات البشر، نجحت بدرية البشر ـ الكاتبة الروائية والصحافية والحاصلة على دكتوراه الفلسفة ـ فى تقديم نموذج الكاتبة السعودية المستقلة التى تستطيع أن تُحدث تغييرا وتضرب عصافير كثيرة نائمة فوق الأشجار، كتبت بدرية البشر عشرات المقالات فى الشرق الأوسط وغيرها تنتقد أوضاع المرأة فى المملكة وتبحث لها عن مكان بعد أن تغيرت أجيال وتعرفت أجيال على ثقافات غربية ،لم تتوقف بدرية البشر عن محاولاتها والتى أجبرتنى بشكل شخصى على متابعة أوضاع الأدب والثقافة فى المملكة ،فهذه كاتبة تدهشنى دائماً ،فلم تستطع إمرأة أن تراهن على الكتابة كسلاح فى محاربة الرجعية وقوانيها ونواسيها مثلما فعلت بدرية البشر التى تم تكفيرها واتهامها فى دينها وعرضها مرات ومرات والتى تحمل زوجها الفنان القدير ناصر القصبى جزء كبيرا من معاناته زوجته الكاتبة الكبيرة، ولم تتوقف مناطحة الصخور بالعقل حتى أن كتابها ( زائرات الخميس ) تحول إلى هاشتاج لسحبه من الأسواق بسبب إباحيته!، ومن حسن الحظ أن الهاشتاج الكاذب الذى روج له مواطن سعودى جاء قبل ساعات من الزلزال الذى هز المملكة العربية السعوية (نوفمبر 2017 ) عقب تشكيل لجنة مكافحة الفساد التي أعلن العاهل سلمان بن عبد العزيز تشكيلها برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان و أوقفت 11 أميراً وأربعة وزراء حاليين وعشرات الوزراء السابقين بتهم تتعلق بالفساد.
وكنت دائما أرى أن دورها لا يقل فى أهميته عن دور رائدات مصريات عظيمات سبقنها بعشرات السنوات بحكم تباين الثقافة والحضارة بين الصحراء والنهر، هناك أصوات كثيرة لكاتبات سعوديات بالطبع لم أذكرهن لجهلى بكتاباتهن ولانحيازى إلى بدرية البشر التى خطفتنى بروايتها الفاتنة غراميات شارع الأعشى”.
أحلام المراهقات فى سبعينات المملكة
فتنة سعاد حسنى فى السعودية
لقى مسرحى الذى كنتُ أقيمه على السطح فى السهرة كل خميس قبول بنات جيراننا، أجلسهن فى صفوف ، كما يجلس المتفرجون، ثم أنشر شرشفا على حبل الغسيل بينى وبينهم، اختفى وراءه ، وألبس ثياب شخصياتى المقلدة ، أرفع الشراشف وأخرج عليهن وقد لففت جسمى بوشاح أسود ، ألقى طرفيه فوق ساعدى ثم أمشى وأنا أميل بخاصرتى يمينا ويساراً ومرة أربط حول حوضى شالا ثم أبدأ فى الغناء والرقص، أغنى “خلى بالك من زوزو.. زوزووو” ، ومرات أبكى مثل فاتن حمامة فى أفواه وأرانب وأصرخ قائلة : “هو أنا مش بنى أدمة زيكم برضه ؟!”.
لكن بنات الجيران يحببن أكثر أن أقلد لهن إسماعيل ياسين وحين أفعل تنتشر بينهن موجة كبيرة من الضحك”.
هكذا تنقل ” بدرية البشر فى روايتها ” غراميات شارع الأعشى” صورة متكاملة عن المجتمع السعودى فترة السبعينات، وترصد التغيرات الاجتماعية مع ظهور التليفزيون ، وتضيف إلى حكايات الحب المستحيل ـ التى عاشها أبطال العمل ـ متعة اكتشاف عوالم آخرى لا نعرفها، فبين سطورالرواية خبايا وأسرار مجتمع يشاهد الحب عبر شاشة التليفزيون ، وخيال مراهقات صغيرات أصبحت مصر بأفلامها ومسلسلاتها وأغانيها نافذة الحياة والخيال لهن ،تقول البطلة :”أفكر فى عالم أشبه بالأفلام المصرية التى أشاهدها مساءات الخميس على تليفزيوننا بالأبيض والأسود .. وقد منحت خيالى صوراً شاهدت نفسى أركب الباص كما تفعل سعاد حسنى وآكل الذرة على شاطىء النيل مثل فاتن حمامة …”.
تبدأ الرواية من هذه الفتاة البريئة “عزيزة “التى تحكى عن عائلتها ووالدها المفتون بصوت المطربة “نجاة “والذى يختلف كثيراً عن رجال كثيرين فى السعودية يلعنون “الغناء “ويكرهون “البنات”، وبعبارات قصيرة نتعرف على طبيعته :”أما والدى فيحب كل شىء قادم من بلاد مصر والشام، كما يقول ، ويحب سماع الراديو طول الوقت ، لم أشاهده يوما إلا والراديو بين يديه، مرة يسمع أغنية لأم كلثوم ، ومرة أخبار القاهرة أو لندن.. يعود كل يوم من عمله يحمل صحفا ويعلق قلمين فى جيب ثوبه، وبعد صلاة العصثر يجلس فى مجلس الرجال، حيث يضع كتبا كثيرة فى رفوف عُلقت على الجدار ويقرأ من رياض الصالحين والشافعى ونهاية التاريخ ، يحب التغنى بأشعار القدماء أمامنا.. ويخبرنا أن أهله وجماعته عاتبوه حين لاحظوا أنه يختصنا باسماء تبدأ بحرف العين مثل ” عواطف وعزيزة وعليه وعفاف”، وترك اسم والدته واسماء آمهات المؤمنين ، ثم قال إنه يحب البنات لأن من يخصه الله ببنتين ويربيهما ويحسن تربيتهما يدخل الجنة، وهو لديه أربه بنات وولدين “فواز وإبراهيم الغائب”.
البطلة الصغيرة التى يحمل اسمها طابعا مصرياً خالصا استوحى منه محمد عبد الوهاب مقطوعته الراقصة الأشهر والأجمل “عزيزة ” أصبح العالم كله هو مصر، أصبح خيالها واسعاً وامتلكتْ قصصا وحكايات استخدمتها فى جلسات السمر:”لا تكتفى الروائية الكبيرة “بدرية بشر” بتلك الإشارات المهمة فى روايتها إلى مصر ودروها فى فتح نوافذ المعرفة أمام أجيال فى المملكة، فإن كانت البطلة تمثل جيل السبعينات، فإن الأب نموذج لجيل الكبار الذين أحبوا مصرواعتبروها عاصمة النور والأمل فى
النهوض بأولادهم وأجفادهم، أما شقيق البطلة ” إبراهيم” الذى يدرس فى الجامعة المصرية فهو جيل آخر من السعوديين الذين انخرطوا فى الحياة المصرية مبكراً، ويظل هو علاء الدين بالنسبة للبطلة ، فكلما يعود من القاهرة ترقص الحياة وتضىء القلوب بفرحة وهو يتحدث عن شوارعها وبيوتها ويحمل هداياها العظيمة: “فتح إبراهيم حقيبته الجلدية الكبيرة وأعطى والدى معطفا رماديا ببطانة ذهبية لامعة ، وقدم لوالدتى قماشة مزينة بالورود الحمراء والزرقاء مثل ثياب فاتن حمامة وهند رستم، وأعطى فواز فانلة كروية كان قد طلبها منه مطبوع عليها اسم فريقه ومجلة تحمل صور أبطال فرق الكرة العالمية وأعطى لأختى الصغيرة ثيابا جديدة ، ثم مدّ عواطف بحقيبة مكسوة بفرو ناعم من الجلد منقط كجلد النمر، ثم أخرج من الحقيبة آخر الهدايا حذاء ذهبى بكعب عال تدمغ باطنه قطعة صغيرة من قماش كتب عليها بالعربية: “صنع فى مصر”، مدّ الحذاء نحوى وهو يبتسم لى، شهق قلبى أعرف هذا الحذاء جيداً يشبه الحذاء الذى تلبسه سعاد حسنى ، الكعب نفسه من الفيلين الرفيع من الأمام والعريض من الخلف، هذا الحذاء هو الذى ينقصنى، مهما لبست مثل سعاد حسنى ومهما لونت وجهى بالأصباغ فإننى لا أكون سعاد حسنى إلا بهذا الحذاء، الآن صرت أشبهها تماما، هذا الحذاء هو العلامة الفارقة بينى وبين باقى الفتيات لا يستطعن أن يلبسن حذاء صنع فى مصر.
وتستعير الكاتبة خيوط الدراما المصرية حتى وهى تسخر مع البطلة”عزيزة ” من فقدان بصرها فجأة في ليلة عاصفة محملة بالغبار. ، ففى العيادة الطبية تطيل الإصغاء إلى صوت الدكتور “أحمد “هى لا تعرف صوت من يشبه، حسين فهمى أو رشدى أباظة أو شكرى سرحان؟ لكنها بعد شفائها تغرم به، ليس لأنه مصرى، ولكن لهجته المصرية تسكب الحنان ليصبح حديثه دافئاً ،ولكن عائلتها ترفض الارتباط به لتصبح قصتها أكثر دراما، وتفكر: هل تهرب معه إلى بلاده وتغير اسمها كى لا يعرفها أحد، تماماً كما فعلت تحية كاريوكا؟.