اللوحة للفنان حامد ندا
(..أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ..أفمن كان على بيّنة .. أفمن يعلم إنما أُنزل إليك الحق من ربك كمن هو أعمى … أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا .. أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أم من يمشى على صراط مستقيم..).
يالجمال هذا التعبير القرآنى البديع الذى تكرر فى آيات كثيرة متنوعا وبدلالات أوقعت شاعرا فى غرامها فذاب فيها وجعلها مدخلا إلى ديوانه (بقايا ألبوم قديم لبرجوازى صغير) وإلى روحه وقلبه ومكانه الذى يقيم فيه:
كلما قابلتنى مفردة (أفمن ) وأنا أقرأ فى كتاب الله الكريم ،أشعر ناحيتها بإحساس غريب ،بحب جارف ،أحببيتها فى سياقاتها الإلهية المعجزة … كم وددت لو أن أجمل البنات اسمها (أفمن ) أو أن أجمل الزهور اسمها (أفمن) لو أن أزكى الروائح رائحة (أفمن) أو أن حورا عينا فى الجنة اسمها (أفمن) ،صدقوا إن أجمل وجه عروس فى الدنيا هو (أفمن) وإن أجمل الفساتين قاطبة هى (أفمن) ،وأجمل السياقات القرآنية التى جاءت لنا مفردة(أفمن) .
افمن تبدو وحدها بلا معنى ، فالهمزة حرف استفهام والفاء حرف استئناف ،ومن اسم موصول مبنى على السكون فى محل رفع مبتدأ ،فما الذى حملنى للافتتان بهذه ال فمن يا ترى ؟ لم اتوقف كثيرا قلت لنفسى ربما السياقات النورانية جعلنى اتعلق بها كأنها باب الكعبة .. ثم إننى آنست موسيقاها ثلاث حركات فساكن .. ربما حب يدخلنى الجنة
يأتى ترتيب ذلك النص متأخرا بين قصائد الديوان ، لكنه النص الذى يتحكم فيما سبقه من نصوص وما جاء بعده ، يتحرر (على منصور ) منذ السطر الأول من قيود الشعر ويكتب سردا جماليا يلخص طفولة هذا البرجوازى الصغير الذى أحب زميلته فى المدرسة من دون أن يعرف أن اسمها (هدى )!، وهو الولد الملتزم بالصلاة فى مواعيدها لدرجة أنه يرفض الذهاب إلى درس الرياضيات لأن الموعد متضارب مع موعد صلاة العصر ،وعندما عنّفته أمه طلب منها أن تبلغ الأستاذ تعديل مواعيد الدرس!، الطريف أن الأستاذ المسيحى وافق بل وتحدث مع زوجته عن هذا الولد اليتيم النابغ :..وكانت العلاقة بين أسرة الغلام والأستاذ أكثر من خاصة حتى أن الام تلجأ إليه فى الضوائق المادية المتكررة ،والاستاذ يعطى الدروس فى شقته ،وفى أحد الأيام فوجىء الغلام بزوجة الأستاذ تأخذه لغرفة نومها وهى ترتدى قميص نوم وردى خفيف وراحت تبتسم له بحنو بالغ وقربته من السرير حيث يرقد صغيرها الرضيع المحموم منذ يومين فأمسكت بيد الغلام ووضعتها على رأس صغيرها وقات له اقرأ الفاتحة اقرأ شيئا من القرآن، كان الغلام وجلا وماخوذا وزوجة الأستاذ تشجعه وتبتسم وتتبرك به وتتوسل ،وتقول اقرا آيات الله فراح يقرا… حتى إذا انتهى أخذته مجلسه فى الدرس بينما الغلمان يتهامسون ).
سيكبر اليتيم ويكتشف فجأة نهراً للقصيدة ينبت داخل الروح يجعله عاشقا للوحدة :
ثمة لص مسلح فى المدينة
يسرق منا كل شىء
كل شىء
حتى إنه ليسرق منا (صباح الخير )
سينزوى الشاعر فى ترتيب شعرى روائى ، سينزى بعيدا حتى عن أصدقاء المقهى:
( قلبى حزين أيتها الجدران
وليس بى رغبة
فى الخروج إلى المقهى
لم يعد هناك هواء للحكايات
والأخبار كلها
لا تأتى إلا بما يجعل القلب حزينا
وما يذبح الرغبة
فى الخروج للمقهى .
وبما إن القلب حزين وبما إن الطيبين انحسروا أمام قسوة الرمال الناعمة كما يقول فى قصيدة (هكذا )فإن رجل الخمسين سيجلس يفكر
ترى فيما تظنون راح يفكر؟!
نعم
لقد راح يفكر
فيما ينبغى عليه أن يفكر
رجل فى الخمسين .
الشاعر يأخذ بيد صحفية شابة!
تنتهى القصيدة هنا ، لكن الرجل الذى تجاوز الخمسين راح يفكر فى حكاياته القديمة ، تخلى عن الشاعرية وراح يكتب نصا سرديا عاديا يتضمن اعترافات غاية فى الرقة والشاعرية ، ولم يجد مدخلاً لتلك الاعترافات سوى استعارة تعبيرات طه حسين فى رائعة (الأيام ) لتأتى الحكايات بصيغة (صاحبنا .. والغلام .. والصبى ) ،يحكى على بداياته كشاعر قادم من الأقاليم إلى زهرة البستان ليرى ويتعلم أن الشعر وحده لا يكفى،وأن البعض يكتب الأخبار عن نفسه ويفبرك التقارير عن أعماله :
وطأت قدم صاحبنا زهرة البستان وصدرت مجموعته الاولى الفقراء ينهزمون فى تجربة عشق فراح يهدى نسخا للشعراء والاصدقاء ، حتى فوجىء بخبر يقول إن جماعة كذا ستقيم ندوة لمناقشة الديوان المذكور!!، فشعر بانزعاج واتصل يعاتب الصديق الذى غرق فى الضحك وهو يؤكد لعلى إنه لا توجد جماعة باسم كذا وأن أحداً لن يذهب للندوة وأن الخبر مجاملة ، وعرف يومها أن فبركة الأخبار أمر لا يستحق الانزعاج وسط هذا الضجيج :
…..
المشجعون فى كل مكان
الصخب
والزحام
والأعلام
ثم حبسوا أنفاسهم
حتى إذا ما سكنت الكرة الشباك،اشتعلت
المدينة عن آخرها
تصرخ
وترقص
فانسل وحده ،وراح يتفرج عليها
كانت
عارية
تماما
هذه الحياة الدنيا .
تورطّ (على ) ،أو (صاحبنا ) ،سقط فى الفخ وكتب خبراً عن نفسه !،وراح يتطهر من الذنب العظيم لأولئك الذين قرؤا الخبر على أنه لصحفية شابة بينما صاحبنا هو الذى صاغه حرفا بحرف قبل أن يرسله بالإيميل للصحفية الشابة وهو يظن أنه يأخذ بيدها ويخصها بخبر كان عنوانه :(على منصور بالأبيض والأسود) ذلك الذى نشر فى جريدة مصرية 2012 بمناسبة صدور إرهاصات العشق الفقير
ستطوف مع (على منصور ) فى هذا الألبوم الشعرى السردى فى كل بحور الدنيا سترى بيوت فقراء وأطفال يتشكلون وأفكار تتغير وتتبدل ولا تبقى إلا تلك الروح التى طافت بالقصيدة حتى بلغت حدود ( أفمن ) كما سبق وتحدثنا ، وها هى تصل بالشاعر إلى لحظة الميلاد ليتأملها فى ألبوم الذكريات
كان نهار الثلاثاء الرابع من ديسمبر من عام ست وخمسين وتسمعائة وألف قد انقضى وولى وهبطت ليلة الاربعاء
فى تلك الليلة الاول من جمادى الاولى عام ست وسبعين وثلمائة من هجرة النبى الكريم .. جاء الشاعر بعد مرور شهرعلى العدوان الثلاثى شهر، وشدّت أم كلثوم ليلتها (صوت السلام)لبيرم ورياض السنباطى ، والشاعر كان يستمع إلى سورة النحل قبل أن ينقطع التيار الكهربائى فتأخذه الذكريات إلى ميلاده وها هو التيار الكهربائى يعود ويعود معه صوت المنشاوى :
(والله أخرجكم من بطون آمهاتكم لا تعلومن شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة)
بهذه الروح التى تحلق حينا وتتطهر حينا آخر ، ذاب (على منصور ) ،حتى تأملاته التى تخص آخرين كانت تتعلق بفكرته عن الخلاص بنعومة فائقة تعود به إلى نهر الشعر بعد السرد :
مات أخى الصغير
فجأة مات
لم يستيقظ من نومه
مثلمما كان يفعل ،كل صباح
ذهبنا إلى هناك
حيث أبى
وأمى
وأختى
ومن قبلهم أسلافى
حدقت مليا وأنا أفكر فى مكانى بينهم
هناك .
كنت أقول إن على منصور اختفى ،فجأة اختفى على منصور ، صحيح أنه لم يكن متواجدا بصورة مستمرة ولم يكن ضيف الصالونات والمؤتمرات والمهرجانات والجوائز إلا أنّه بخلّ علينا حتى بهذا التواجد القليل والشحيح جدا، ولست بصدد البحث عنه فقد عثرت عليه فى ألبومه القديم .