عندما كتبت صافى ناز كاظم أول مقال لها لم أكن وأبناء جيلي قد جئنا إلى هذه الدنيا وعندما كانت نجمة فى سماء الصحافة يشيد بها أستاذنا الراحل أحمد بهاء الدين ويكتب لها مقدمة كتابها الأول “رومانتيكيات” كنا نهيم فى جهل الطفولة العميق وهاهي تصدر كتابها الثالث عشر (تاكسى الكلام ) دون أن تتغير أو تتأثر بعوامل التعرية الفاسدة، مازال قلمها حيا نابضا رافضا الخنوع أو البيع مهما كان الثمن.
صافي – كما سمعت ابنتها الجميلة نوارة تناديها – لم تسمح للزمن أن يلعب معها دوره المعروف وفشل في تجريح روحها فظلت كما هي عنيدة قوية صلبة تقول الحق وأجرها علي الله وهذا الشعار أو المبدأ الذي حافظت عليه “صافي” هو الذي جعلها تسكن
قلوبنا نحن أبناء جيل الانكسارات والهزائم وبيع الأوطان والخيانة المجانية والفساد أبو شرطة – بفتح الشين – كل الذين أحببنا كتاباتهم قرروا خيانتنا بعضهم ذهب لمنصب وراح يهلل لوزارة الثقافة ويحرس حديقة وزيرها ، وبعضهم سقط في مستنقع التطبيع، وبقيت “صافي”.. الجميع باع بشكل أو بآخر ليتركها لنا وحدها.
منذ منتصف السبعينات وحتي أوائل الثمانينات كان عدد ضخم من الأدباء والكتاب يقفون في طابور هدايا “صدام حسين” تحت شعارات براقة وخادعة من الوحدة العربية والنضال القومي، في حين كانت تكتب “صافى ناز” عن الظلم والقهر الذي يعيشه الشعب العراقى، وتسجل في كتابها “يوميات بغداد” مايشبه النبوءة لما جرى فقد عايشت وقائع إعدام الشهيد العلامة “آية الله محمد باقر الصدر” وشقيقته في أسبوع واحد، الأمر الذي جعلها تغادر بغداد بعدما ذهبت إليها للعمل كأستاذة للنقد المسرحي بجامعة المستنصرية هربا من التضييق عليها ومنع كتاباتها في مصر.
وصافي لم تقتن سيارة فارهة ولا حتي متواضعة ولم تسكن الأحياء الراقية، أو تعش في فيلا تطل علي حمام سباحة وسط خدم وحشم، وكان يمكنها فعل ذلك وأكثر، لكنها قررت أن تقتني ما هو أغلي وأجمل وأبقي “شرف الكلمة” لم تبع نفسها ولم تقبل المساومة بل إن كلماتها كانت سببا مباشرا في عذابات كثيرة ذاقت خلالها مرارة النفي الاجباري، وقسوة الاعتقال وجحيم الحرمان من الكتابة.
و”صافي” التي ترفض أن يناديها الناس بكلمة “مدام” كتبت مقالا بديعا في هذه المسألة، قد تبدو متشددة لبعض قصيري النظر الذين يعيبون عليها رفضها مصافحة الرجال، لكنها في الحقيقة أكثر استنارة ومن أصحاب الشعارات التنويرية المستهلكة ومن “كلوبات” المجلس الأعلي للثقافة ذات نفسه، ، فهي فنانة تعشق الموسيقي والسينما، وتبتهج مثل طفل كلما شاهدت فيلما جميلا، وقبل كل ذلك هي استاذة للنقد المسرحي بل هي أول مصرية تدرس أصول النقد فقد رفضت أن تكون مثل كل النقاد الذين عاصرتهم، وجميعهم لم يدرسوا أصول أسس النقد.
سافرت في مغامرة لاتقبل عليها سوي صافى ناز كاظم، ودرست النقد في الولايات المتحدة الأمريكية.. هذا الوعي الثقافي والفني والسياسي وهذا الذكاء المعجون بعشق تراب هذا الوطن، هو نفسه الذي جعلها تتخذ قرار الارتباط بالشاعر الجميل “أحمد فؤاد نجم” الذي لايملك من حطام الدنيا الواسعة سوي عشق مصر وحواريها. رأته جزءا من تمردها ورفضها. رأته جنديا في نفس الخندق الذي تقف فيه، وسلاحهما واحد تقريبا. وكانت ابنتهما “نوارة – التي تحمل من اسمها الكثير – والتي لم تشعر لحظة بغياب “نجم” بعد الانفصال فوالدتها أكبر من ذلك بكثير وقد رأيت بعيني كيف تعشق “نوارة” والدها “أبو النجوم”. وكيف تلف أصابعها حول أذنه لتقرأ آيات الذكر الحكيم كلما ودعها.
أخذتنا “صافى ناز” من كتابها البديع “تاكسي الكلام” الذي تبدأه بأجمل مايمكن أن تقرأه عن “النمل”. تتأمل قوته وإصراره ورغبته الدائمة في تحقيق هدفه مهما حاولت أصابع الإنسان الضخمة عرقلة مسيرته تعتبره “صافي” جنديا في معركة شرسة لايقبل الهزيمة أو الاستسلام مطلقا مهما كان حجم الخسائر.
ومن النمل إلي المشاكسة المعتادة من كاتبة لاتهدأ ولاتعرف المجاملات، فهاهي باسلوبها الراقي تتحدث عن صاحب نوبل. وتعترف بأنها لاتحب سوي ثلاثة أعمال من كتاباته “ثرثرة فوق النيل” و”اصداء السيرة الذاتية” و”أحلام فترة النقاهة”. ولا يخلو المقال من “كتف قانوني”، تقول: غضبت من نجيب محفوظ في سنوات حكم السادات، لكنني لم أتوقف عن قراءته فالرجل يخبئ مواقفه في أدبه ويداريها بابتسامات التهذيب الدمثة، حين قرأت “اصداء السيرة الذاتية” صفحت عنه ولم اعد غاضبة.
وفي مقال غاضب ترد صافى ناز علي شخص اعتقد انها غير مصرية بسبب اسمها ولأنه اقترب من مصدر اعتزازها فإنها تلقنه درسا قاسيا وتكتب “ولذلك فإنا اشرح الملتبس عنده في هذا الاسم المركب من “صافي” العربية التي لا تحتاج إلي ترجمة، و”ناز” الفارسية والتركية والأردية وتعني اللطف والظرف وقد دخلت مفردة “ناز” إلي العربية في أسماء شائعة مثل “نازك” ونازلي.. أما “كاظم” مكظوم كظيم الغيظ” وتصريفاتها العربية “كاظم مكظوم كظيم منكظم”.
واعادت “صافي” الاعتبار للراحل الجميل “الشيخ إمام عيسي” وطلبت من أصحاب الأصوات النشاز التوقف عن ترديد أغانيه.. صافي.. كل كتاب وأنت “صافى ناز كاظم”.
تهانينا أستاذي وتلميذ أستاذي (أسامه عفيفي) بهذا الموقع الجميل والمبدع كالعادة