يركض الغجري في البريّة … وخلفه أهل البلدة كلهم يحملون مشاعلهم … استغل لون بشرته المنحوتة من قاع النيل و تخفى خلف لا ضوء لقمر و بين لا ظلال لأشجار … ترك نفسه متكوراً بين زراعات الذرة … مبتَلَعاً برغبة في الحياة داخل رحم الخضرة … يسمع وقع الأقدام الثقيلة لخفراء العمدة تتحرك على نواصي الحقل المغلف برداء ليل غادره قمره و النجوم … ويسمع دقات قلبه المتصاعدة بفعل الإدرينالين و الأمل الذي يقاوم وقع الأقدام الثقيلة
إنها ذات اللعبة القديمة و الدائمة تتكرر …
مطلوب منه أن يحمل في سيارات فرقته المسرحية كامل عدة البهجة … الملابس و الديكورات و المكياج و النص و الفنيين و بالطبع الممثلين و الممثلات .
مفروض عليه أن يكون العرض كامل الحبكة شديد الإحكام فالكبير سيحضره …
و بالطبع (( هذا شرف لا يوازيه شرف )) هكذا أكد مدير عام الثقافة في الإقليم … و لم ينس أن يضيف هامساً في أذن الغجري المخرج و هو يودع سيارات الفرقة المسرحية …
(( وهو كذلك يقدر الفن و أهله … و لا تنسنا )) !
مبنى المسرح واجهته فرعونية … بهوه روماني … أعمدته تنتمي لعصر العمارة العثمانية … و على الجدران منمنمات عربية و لوحات قبطية …
للمسرح أبواب عدة استحدثها ( الكبير ) للحفاظ عليه … الأبواب حديدية … و حراس أرضعهم ( الكبير ) حديداً مصهوراً .
الجمهور كبير … يتحركون في مجموعات، و لكل مجموعة قائد .. ربما هو من عائلة حرس الأبواب أو على الأقل تربطه بهم علاقة نسب …
الجمهور صامت و عيونه مصوبة نحو قائد كل مجموعة …
باعة (الفشار ) قبل العرض يدخلون يتوزعون صفوفاً … يضعون بيد كل مشاهد علبة فشار مُتَجَلِّد و يستلمون النقود و لا مجال للاختيار .
حين طلب أحد الصغار عصيراً بدل ( الفشار ) سارعت يدا أبيه لتطوق فمه و علت وجهة ابتسامة شاحبة وهو يواجه بائع ( الفشار ) و بطرف عينه يتابع قفا قائد المجموعة الجالس أمامه بصفين قال :
((عيّل و لا يعرف مصلحته)).
كل كراسي القاعة مصفوفة و ممتلئة … فقط أول صف خال تماماً من الكراسي و من الجمهور … فقط كرسي واحد ليس من جنس كراسي القاعة … كرسي عرش متحرك … إنه لـ ( الكبير ) .
يبدأ العرض …
حواء الرمز تجسد دورها … و ذكورية خشبة المسرح حلبة مصارعة لديوك يحمل كل منهم عُرفه داخل عقله لا فوق رأسه .. حواء جميلة … الحلبة تستعر صراعاً … و … الكبير مد أمانيه سلماً عَبَرَ به قاعة النظارة إلى الخشبة إلى الحلبة إلى حواء … و تملل في جلسته فوق الكرسي ومد يده نحو مركز جلبابه و الجسد … وراح يفرك حَرًّا يداهم برودة فحولته التي لا تشرق شمسها في الحلال ؟!.
الغجري المخرج … خلف الكواليس يصدر توجيهاته …
(( إضاءة ساقطة على حواء كل الديوك تتحفز))
و الكبير منتصب الظهر يتحفز
إيقاع الحرب الآن كل الديوك تتعارك و الكبير يأتيه خبر الإجهاز على مكتبة الأستاذ (نون) التي أفسدت شباب البلد
الغجري المُخرِج يُصدر الأمر :
((افرش المسرح أحمر))
كل الديوك سقطت و الكبير رغم المشهد الدامي سعيد لم يبقى و لا ديك
والمخُرِج الغجري تتوالى أوامره :
(( الإنسان يستعد))
((تحركي حواء … اكسري الحائط الرابع))
ظلام
حواء هبطت خشبة المسرح … حواء وصلت الصالة … حواء و عمود ضوء ساقط يلاحقها حواء و فستان حزين … ممزق … الألم أسود … و دماء الديوك قانية … و بدن بض يميز بياضه سواد الألم و حمرة الدم المتصارع حواء تواري ما تكشف من أثر الصراع … نهد عفي الانتصاب … و بطن ينتظر رحمَهُ الإنسان القادم تصرخ :
(( أنا الحرة التي سيرويها نهر الإنسان ليكون الزرع .. ))
الكبير يركز في ما تيسر من النهد
الغجري المخرج يغمض عيناه و ينتقل إلى الإقامة في عقل حواء لتواصل
(( أنا الحرة التي ستستسلم لفارس لم يسقط من على فرسه حتى لو كان مترجلاً ))
الكبير يسافر في أخدود بين النهدين
الغجري المخرج يضغط أحبال حواء الصوتية ليكون صوتها من عمق أحشائها :
(( أنا الحرة التي سترضع أثداءها صبحاً قادم))
الكبير يتمنى لو كشفت له النهدين …
الغجري المخرج يسحب حواء من رأسها لتشمخ :
-((أنا الحرة تعال يا إنسان … الصبح تأخر … تعال يا إنسان الليل طال))
الكبير يقوم …
الغجري يشير للإنسان الرابض في القاعة ليستعد الإنسان يقوم …
حواء تصرخ …. الكبير يضمها …. الغجري المخرج اقتحم الخشبة …. الإنسان الممثل تسمر في مكانه …. حواء في أحضان الكبير تحاول الهرب … قادة مجموعات الجمهور يصفقون … فـ يصفق الجمهور … و تصرخ حواء و يصفق الجمهور …
الإنسان الممثل في القاعة تسمر في مكانه و عيناه صوب الغجري المخرج و التساؤل الذي يطرق باب استمرار العرض :
((ماذا أفعل يا أستاذ ؟))
توسط الغجري المخرج خشبة المسرح … رأس حربة و من خلفها قاعدة تمتد من عمق الخشبة تراص فيها كل الفرقة خلف قائدهم :
– هذه هي النهاية …
– عرض رائع يا فنانين
يقولها الكبير بينما يداه تضمان جسد حواء البض الصغير إلى صدره الممتد خرابة نتنة الرائحة بصوت هادئ يقول الغجري :
– نهاية وضعتها أنت يا كبير لم تكن متوقعة
– أحب البدايات غير المتوقعة
– تقصد النهايات
– لا أقصد البدايات … فهذه هي بداية ليلتي
و علت صوت ضحكاته، جسد حواء يحاول عبثاُ المقاومة، و القاعة غادرها الجمهور كل الجمهور، اتسعت عينا الغجري، بان بياضهما السابح في سمرة وجهه، مسح بيده فمه فلمس الحسنة السوداء الكبيرة على جانبه، و بقي ممسكاً شفتاه ثوان ثم صعد بيده على رأسه الأصلع و ابتسم :
– أنت طبعاً ترى أنني أصلع … ومن السهل أن تميز أن رأسي خالي من القرون … و هي في الوقت ذاته غير قابلة للزرع … رأسي أرض جرداء لا تنبت إلا أعمدة من أفكار .
و إلى عيني الكبير نظر الغجري المخرج … و صرخ :
-اتركها …. الآن … فوراً … لن نتحرك بدونها … حواء جاءت معنا و لن تغادرنا
جلس الكبير محتضناً صيده و ابتسم :
– من قال أنكم ستتحركون ؟ أنتم متهمون ؟ و مدانون ؟ و الأدلة قائمة ؟ قل يا شيخ البلد جرائم الأستاذ وفرقته
يشد شيخ البلد طرف عباءته المتدلي من على كتفه الأيسر … و يبتلع لعاباً زاد بسبب فص الأفيون المتواري تحت لسانه … و يخرج ورقة :
– لقد أثبتت التحريات أن هناك ست علاقات مشبوهة وشاذة بين أعضاء الفرقة … و أن ثلاثة من الذكور فيها قد ارتضوا أن يتحولوا إلى إناث و الدليل أن شعورهم طويلة جداً لدرجة أن اثنان منهم يعقدان شعريهما كذيل الحصان … إضافة إلى عدة زجاجات جعة 12 % و قبلات غير مشروعة بين الرجال و النساء و بعض كتب لموليير و تروتسكي و الأدهى أن هناك شبهة في أن الفرقة تبشر بدين جديد حيث و جدنا كتاباً مجهول المصدر معنون بـ ( النبي ) و …
ويقاطعه الكبير:
– هذا يكفي … شذوذ و قبلات و إلحاد و إدعاء النبوة
و دون أن ينقل بصره إلى أحد صرخ :
– الحكم يا مولانا …
جاء صوت خاشع من ركن مظلم في القاعة :
– إن للشذوذ عقابه … و للإلحاد عقابه … و لادعاء النبوة عقابه … و أرى أن يُرموا من حالق أي جبل شاهق أو يرمى عليهم حجر كبير … أو يحَرَقوا … أو …
قاطعه الكبير
-إذن فليكن الأسهل … يُحَرَقوا
قالها و نبتت في حوائط خشبة المسرح الأربع أعمدة نيران … تعالت مع تعالي ضحكات الكبير و هو يجر خلفه حواء من شعرها خارجاً من المسرح و خلفه حرسه كانت صرخات الفرقة التي تحترق … مختلطة … ملتاعة … بريئة و مغدورة …
ظل الغجري في مكانه … لم يصرخ … لم يتحرك … و جدوا هيكله واقفاً … بدا أطول قامة بكثير … شك المحققون في أنه للغجري … حواء هربت من غرفة حبسها فيها الكبير … هربت رغم أن الغرفة كانت بلا نوافذ … قال أحد الخفراء :
– شاهدتها تخرج من الجدار ومعها الغجري
بحث عنها الكبير في كل مكان … لم ينلها رغم كل التوسلات … أرسل عيونه تتأكد من موت الغجري … و تأكدت كل العيون
الكبير لم يكن مقتنعاً أبداً بموته …
كان يلمحه في الليل و يخرج خلفه يطارده إلى حقول الذرة و القطن و حتى خلف شواهد القبور و بين أشواك صبارها حين يتأكد من أنه يحاصره يأمر بإشعال النار في المكان كله … و يحرق … و يذهب ليعود و يحرق … ثم يهدأ ليفكر و يفكر و يحرق … وفي كل مرة يعود إلى قصره بعد نوبات الحرق التي صارت سمة حياة … يسمع ضحكات الغجري ويشم دخاناً شمه متصاعداً من هيكله العظمي ساعة أمر بإحراقه .
— القاهرة 5 سبتمبر 2011م