بعد شهور قليلة من حادث ” مقتل سميرة مليان” لم يكن أمام أصدقاء بليغ حمدي إلا الإلحاح عليه للسفر إلى الإسكندرية، للابتعاد عن الكابوس المرعب وجو القاهرة، خاصة بعد أن تراجعت حالته النفسية وتدهور صحته بشكل مفاجئ، وسافر بليغ لفترة قصيرة، ولما عاد إلى القاهرة وجد كابوسا جديدا في سينما “سفنكس” الصيفية التى تطل عليها شقته في الميدان الشهير.
الكابوس الجديد الذى ضاعف أوجاع بليغ حمدي، تحدث عنه الكاتب الصحفي أيمن الحكيم في كتابه “بليغ حمدي سلطان الألحان”، وقال إن الكابوس الجديد خرج في شكل فيلم سينمائي بائس عرض لأول مرة في 22 يوليو 1985 – أي قبل مرور عام على أزمة بليغ-، ففي شهور قليلة اجتمع المؤلف نبيل علام، والمخرج محمد بشير، والمنتج مخلص شافعي، واتفقوا على تحويل أحداث القضية إلى فيلم سينمائي –يدين بليغ-، واختاروا له اسم “موت سميرة”!.
ووافق كمال الشناوي على البطولة، ولعب دور المليونير “عبدالرحمن شاكر” الذى جاء إلى القاهرة برفقة زوجته “سميرة” التى لعبت دورها في الفيلم “رغدة”، وبعدها يتعرف المليونير على الملحن الكبير فهمي صالح -يوسف شعبان-، وفي بيته يعجب بالمطربة الصاعدة “نورا- إلهام شاهين”، التى ترفض عرض الزواج منه وتصده، لتلجأ زوجته الأولى –سميرة- إلى الملحن وهناك يلحق بها المليونير ويقتلها.
ويذكر أيمن الحكيم في كتابه، أنه بعد العرض الأول للفيلم شعر أبطاله بالندم، وتأكدوا أنهم ارتكبوا حماقة في حق فنان كبير ظلم في حادث تسبب في اغتياله معنويا ونفسيا وعجل بنهايته.
ويحكي: “كانت المفارقة أن الفيلم يعرض في سينما سفنكس الصيفية المقابلة لشقة بليغ حمدي في الميدان الشهير نفسه، وهي الشقة التى شهدت حادث انتحار سميرة مليان، فكان الجمهور يخرج من السينما بعد انتهاء الفيلم متوجها إلى العمارة التى يسكنها بليغ، ليعانوا على الطبيعة مسرح الحادث ووقائع المأساة كأنهم يقولون (هنا سقطت سميرة، هنا انتحرت” وبعدها يرفعون أبصارهم إلى نافذة شقة بليغ ويتخيلون ما حدث”.
زى الزمن طبعه الخيانة
مزيكا مخلوطة بالحزن والقرنفل
أغسطس 1985، الكاتب الكبير محمود عوض، في طريقه إلى شقة بليغ حمدي بميدان سفينكس، بعد أن عادوته آلام الكبد وبدأت تنهش في جسده النحيل، وخلال نصف ساعة كان محمود عوض أمامه برفقة الدكتور علاء الزيات طبيب الكبد، الذى لمس تدهور الحالة الصحية لبليغ، ونصحه بالسفر للعلاج خارج مصر.
الفكرة نفسها كانت كافية لقتل بليغ الذي أحب مصر حد الجنون حتى ولو كان السفر للعلاج وليس هربا من قضية غريبة لا ذنب له فيها جعلته مطاردا في وطنه، لكن في النهاية سلم نفسه لتغريبته حاملا وجيعته وآلامه، هاربا من نظرات الشك والاتهام والشفقة.
اليونان كانت أولى محطات لبليغ حمدي في منفاه، وبعدها طار إلى لندن بنصيحة من طبيبه المعالج، باعتبارها الأكثر تقدما في علاج أمراض الكبد، ونزل ضيفا على “نانو الحكيم” شقيقة وجدي الحكيم، وفي غرفة صغيرة كتب ولحن أغنيات عديدة لميادة الحناوي في أواخر الثمانينيات، ورغم الزيارات المتفرقة من محمد رشدي وسميرة سعيد ولطيفة ومحرم فؤاد وكامل البيطار وهاني مهنى، إلا أن جو لندن كان يذكره برحيل عبدالحليم حافظ، ولذا قرر الترحال مجددا إلى باريس.
لم يكن لبليغ حمدي في شقته الصغيرة بباريس إلا العود، وحوله نسجه كل ما يذكره بمصر وأهل مصر، فكان يمنى نفسه بأن أيام قليلة و”تنزاح الغمة” ويعود إلى حياته وبلده، لكن طالت الأيام في الغربة بعد صدور حكما غيابا بحبسه عاما كاملا في قضية مقتل المطربة المغربية سميرة مليان.
لم يتوقف رنين الهاتف بين بليغ في باريس والأهل والأصدقاء في القاهرة، وفي كل مكالمة كان يجدد طلبه: “ابعتولي حاجات من ريحة مصر، تماثيل، صور، هدايا”، فكان يطوع الأيام ويروض الوجع والمرض ويوهم نفسه بأن باريس ما هي إلا وسط القاهرة، ومن شقته في 18 شارع سانت سين في قلب باريس، يمكنه رؤية برج القاهرة والمراكب الشراعية في النيل.
في كتابه “بليغ حمدي سلطان الألحان” يقول الكاتب الصحفي أيمن الحكيم: “شقة بليغ في فرنسا كانت تتكون من غرفتين، الأولي للنوم، والثانية حولها لمكتب صغير ووضع فيها بيانو وأجهزة تسجيل حديثة، وعلق على الجدران ربابة ولوحات مصرية خالصة، ولوّن الشقة بلونه المفضل (الأبيض).

رسائل ابن النيل إلى شادية
بعد أن اطمأن بليغ لرائحة مصر من حوله بدأ يتعايش مع الغربة بالهروب للكتابة والتلحين، وكانت “زي الزمن” أولى أغنيات ألبوم “رسالة من الغربة”، وكتب معتابا الأصحاب والوطن والحبيبات : “زي الزمن طبعه الخيانة .. زى الزمن خان الأمانة ، يسرق ربيعك.. زي الزمن ..تدبل يبعك.. يرميك وينسي أنت مين.. ويدوس على عشرة سنين.. )،وسجلها على شريط كاسيت بصوته وتركها ليبدأ في ثاني أغنيات الألبوم “يا وابور يا مروح بلدي”.
حلم العودة إلى مصر لم يترك بليغ حتى نومه طيلة سنوات الغربة في باريس، ولم يهدأ إلا بعد أن كتب ولحن الأغنية الثانية من ألبوم “رسايل الغربة”، وكتب على النوتة الموسيقية الخاصة بالأغني (كلمات ولحن ابن النيل)، وأهداها فيما بعد مع أغنية “زي الزمن” للمطربة الراحلة ذكرى، ورفض أن يتقاضى أي مبلغ مقابل اللحن والكلام، ولما عرضت عليه ذكرى دفع مقابل مادي انزعج وقال لها بالحرف الواحد: “أوعى تقولى كده تاني.. عيب”.
فى الجواب أو الخطاب النادر الذى أرسله بليغ حمدي إلى المطربة شادية من غربته فى باريس، حكى فيه عن أغنية جديدة كتبها لم يكمل لحنها بعد، كتبها في ذكرى حرب أكتوبر وأطلق عليها وقتها اسم “هدية من مغترب”، وفيما بعد حققت له أمنيته عفاف راضي.
في شهادة خاصة عن رحلتها مع بليغ قالت عفاف للكاتب أيمن الحكيم: أثناء التجهيز لإحدي حفلات أكتوبر، وكان يحضرها الرئيس حسني مبارك، اتصلت ببليغ وقلت له ألاقى عندك أغنية وطنية أغنيها في أكتوبر، فرد عندي، وبدأ يردد: رغم البعد عنك.. صاحى فى قلبي حبك.. شاوري الأمر أمرك، أفدى بعمرى دمعك.. رغم البعد عنك.. عمري ما هنسى إنك أمي وإني أبنك”، ولما سألته عن اسم الشاعر فقال أنا اللى كاتب الكلام، لكن طلب مني ألا أقول أن الأغنيه من تأليفه وألحانه”.
وتقول: “وقتها عرفت أن كل حرف في كلمة يعبر عن حالة بليغ في البعد عن مصر، وأنه يوجه رسالة من خلالها للمسؤولين أن يهتموا بقضيته”.
“نابليون على فراش المرض”.. آخر كتاب قرأه
6 أعوام كاملة قضاها نابليون بونابرت في المنفى، بدأت 1815 وانتهت برحيله مريضا مهزوما 1821، وما بين منفى “نابليون” وتغريبة بليغ حمدي “1985-1990″، في شوارع لندن وباريس، أوجاعا متشابهة إلى حد التطابق، فالأول صاحب عرش وأمبراطور يعشق وطنه وكسر جيوش العالم وكان يأمر 5 أشخاص في وقت واحد، أما “بليغ” فكان عاشقا حقيقيا لوطنه، ولا هم له إلا مصر والموسيقى، لكن قتلته الغربة عن بلده وحاصره المرض، ليموت في النهاية دون حقه، غريبا مظلوما.
صاحب العرش وملك الموسيقى
الأعوام الفاصلة بين تغريبة بليغ ومنفى نابليون، تعدت الـ150 عاما، لكن صاحب العرش وملك الموسيقي، عاشا نفس التجربة تقريبا، خاصة رحلة المرض مع سرطان المعدة وأوجاع الكبد، وانهيار مملكة النجاح ونكران الأصدقاء وجحود المقربين، وفي هذه المنطقة تحديدا وجد “بليغ” في كتاب “نابليون على فراش المرض” للدكتور مصطفي الديواني، مساحة كافية تشارك فيه مع الإمبراطور العظيم طلب صغير ينهى معاناته مع المرض بالدفن في تراب بلاده، وظلل عبارات بعينها من الكتاب بعد أن قرأه منها: ” أما آن للنجم أن يآفل.. للشعلة الدائمة أن تخبو”.
الكاتب الصحفي أيمن الحكيم، ذكر في كتابه “بليغ حمدي سلطان الألحان”، إن “بليغ حمدي كان يعاني من حالة اكتئاب شديدة في أيامه الأخيرة، وكان على رأي صديقه محمود عوض (هيكل إنسان)، لأن بليغ الحقيقي مات يوم صدور حكم بإدانته في قضية مقتل سميرة مليان، ومن سخرية القدر أن يكون أخر كتاب قرأه ووجدوه على فراش الموت بعد رحيله هو (نابليون على فراش المرض) للدكتور مصطفي الديواني، والكتاب يحكي بالتفصيل أيام نابليون الأخيرة عقب هزيمته في معركة (واترلو)، ونفيه لجزيرة القديسة هيلانة، والعذاب الذى لاقاه حتى فارق الحياة، وكلها أمور تنطبق للمصادفة على حياة بليغ نفسه، فالأخير كانت له أيام مجد مثلما كان لنابليون، وحقق انتصارات وفتوحات في مجال الموسيقى مثلما حقق نابليون انتصارات وفتوحات عسكرية، ثم كانت قضية (سميرة) أشبه بمعركة (واترلو)، التى هزم فيها نابليون وكسرت شوكته، وكان منفى جزيرة القديسة هيلانة، أشبه بباريس التى هاجر إليها بليغ طريدا من وطنه، وهناك كتبت الغربة وآلام المرض نهايته الحقيقية، والغريب أن بليغ بعدما قرأ الكتاب لم يضع خطوطا بقلمه على صفحاته إلا تحت هذه العبارات: ( أما آن للنجم أن يآفل.. للشعلة الدائمة أن تخبو.. أضله الوحي أن يذهب إلى روسيا حيث الخير والنعيم فلم يجد إلا الموت والبرد والدمار).
في نوفمير1820 -قبل رحيل نابليون بعام واحد-، يحكي “الديواني” في كتابع، أن نوم نابليون كان مضطربا في أيامه الأخيرة، وكان ألم الكبد يعاوده كل ساعة، وكانت قواه انحطت ونشاطه غادره، فأخذ يناجي طبيبه: (ما ألذ الراحة يا طبيبي العزيز، إن رفاهية الفراش دونها أي عرش في الوجود، فمن كان تمضى عليه ليال بأكملها لا يغمض له فيها جفن يفكر ويعمل، ويملى أوامره على 5 جنود في وقت واحد، الآن لا شئ، غادرتني قواى ومواهبي وأعصابي.. بالله لا تلح على في أخذ الدواء فقد غلب الداء”.
بعد شهر واحد، اشتد ضعف الإمبراطور، وبعد ليل قضاه في ألم مستمر حاول مغادرة الفراش، ولكن خانته قواه، فارتمى وصاح: “حتى رجلاي تخوناني! ماذا بقى منى؟، هيكل عظمي بلا حركة ولا يفكر، لكل شئ نهاية وهذه نهايتي تقترب.. الآن سأرفع راية العصيان على الدواء يا طبيب، أنني شخص لطالما واجهت الموت بلا خوف وتعرض لأشد المخاطر هولا، ولكن ليس أبغض إلى نفسي من أن تمس شفتي كأس الدواء، لقد أكثر الأطباء من إعطائي المقيئات والمسهلات والحقن الشرجية، فضاعفوا ألمى، وجعلوا من جسمي حطاما باليا.. دعوني أموت من الداء فهذا خير لي من أدويتكم”.
وصية الإمبراطور
ما أوصى به نابليون في 16 أبريل 1821، تشابه إلى حد كبير في بعض النقاط مع سيرة بليغ حمدي، فحين كتب نابليون وصيته بخط يده طلب أن يدفن على ضفاف نهر السين ليشعر في آخرته أنه بين الشعب الفرنسي الذى أحبه من كل قلبه، ووجه كلامه لابنه وأوصاه ألا ينسى أبدا أنه ولد فرنسا ويجب أن يعيش لها ويموت من أجلها، وأن يتذكر دائما مبدأ والده: “كل شئ لفرنسا ولشعب فرنسا”.
وبعد أن صعدت روح نابليون إلى خالقها 5 مايو 1821، نفذ الأطباء وصيته فيما يتعلق بتشريح جثته، واكتشفوا أنه كان مصابا بالسل الرئوي وسرطان المعدة، أما التهاب الكبد فكان سببه مناخ الجزيرة الحار.
قرأ التجليات الصوفية ومات
أيام البليغ على باب الرجاء
عاش بليغ حمدي قصة سميرة مليان – ديسمبر 1984ـ حالة من الضياع كطفل مرعوب كل ما يخشاه الابتعاد عن حضن أمه التى عشق ترابها ونيلها، فكان من الصعب علي محب مثله أن يدخل على قلبه كل هذا الظلم والقهر دفعة واحدة، أو يصدق لحظة أن مصر التى أحبها ستفتح سجونها وتضعه بداخلها، وسأل نفسه ألف سؤال وسلم الأمر لصاحبه ليعيش “تغريبته” وحيدا بين لندن وباريس لأكثر من 5 أعوام قبل إعلان برأته بداية التسعينيات.
بعد عودة بليغ من الغربة كان همه الأكبر تعويض ما فاته في سنين البعد عن مصر، فبدأ في اكتشاف المواهب الجديدة ووضع عشرات الألحان لملحمة “بوابة الحلواني”، واستضاف ليلي مراد وسوزان عطية وسميرة سعيدة في برنامجه “جديدX جديد”، وفي أيامه الأخيرة سلم نفسه للتجليات وعاش روحانيات خاصة مع القرآن الكريم والكتب الدينية وأشعار أئمة آل البيت وأهل التصوف.
عن طبيعة هذه المرحلة في حياة بليغ حمدي، يقول الكاتب الصحفي أيمن الحكيم، في كتابه “بليغ حمدي سلطان الألحان”، إن الذين اقتربوا من بليغ في أيامه الأخيرة يؤكدون ان النزعة الروحانية غلبت عليه، وكان يعتكف في حجرته ساعات طويلة لقراءة القرآن والكتب الدينية، وكان يغلب على هذه النزعة حالة الهروب من الإحباط التي كان يعيشها.
وفقا لـ”الحكيم”، أحضر بليغ في الفترة الأخيرة من حياته وبعد عودته من باريس عددا كبيرا من كتب أئمة الصوفية، خاصة مؤلفات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وابن الفارض، ومحمد بن الحسن النفري، والشيخ عبد القادر الجيلاني، وعن كل كتاب يقرأه يسجل ملاحظات عليه في ورقة منفصلة.
ونقل صاحب “بليغ حمدي سلطان الألحان” بعض ما سجله بليغ حمدي عن كتاب “السر الأعظم” لمصطفي محمود: “لله حكمة في التستر – من صفاته العزيز الممتنع لا يبيح أسراره للكل بل لمن يستحق أن يفهمها-، -كل ما في الدنيا تجلياته وتنزلات اسمائه وحنانه-، الصوفي العارف كل شئ في نظره يدعو إلى الدهشة- الوجود كله عجب”.
وبالرجوع لكتاب “السر الأعظم” للوقوف على ما سجله بليغ حمدي من تجليات وخواطر، نجد أنه وضع لمسته الخاصة في فهمها وحاول سردها تباعا وأضاف لها تفسير مبسط، فما ورد عن “ابن عربي” ونقله مصطفي محمود: “فالله من صفاته أنه العزيز الممتنع الذى لا يبيح أسراره إلا لمن كان أهلا لتلك الأسرار فهي ليست شرعة لكل وارد”، وهنا حفظ وأضاف بليغ واختصر الحكمة في 4 كلمات ” لمن يستحق أن يفهمه”.
ومن تجليات “ابن عربي” ذهب بليغ حمدي للقواسم المشتركة مع الشيعة الإمامية “الإثنى عشرية”، وكتب دراسة مبسطة عن هذا المذهب كتب فيها: “سميت الشيعة الإثنى عشرية لأنها تدين بإثني عشر إماما لهم المعجزات والعصمة من الله، ولهم اتباعهم عند الشيعة، وهم الإمام على بن أبي طالب، الحسن بن على، الإمام الحسين بن على، على زين العابدين، محمد الباقر، وأخذ يعددهم حتى وصل للإمام الأخير محمد المهدي”.