المصور 1979
يا داهية دُقي، ماذا تفعل في أمر جلل كهذا؟! ألم يجد القلب سوى تلك التي تعفر السجائر! نصيبك وقدرك يا ولدي! إن صورة البنت بسيجارتها بين شفتيها تجرح حياءها في نظرك أعرف ذلك! والكل ينتابه هذا الإحساس بدرجات متفاوتة، حدث هذا حتى مع راهب الأدب والفكر الكبير الذي كان يجلس في محرابه وجاءته فتاة تطلب منه مساعدتها على القراءة لإن زوجها يحب القراءة وهي تريد أن تنال رضاه، ولن تجد أستاذاً يأخذ بيدها أفضل منه. لكن الراهب لم يسمعها وهي تطلب منه أن يكون مرشدها لإسعاد زوجها، انشغل بالسيجارة التى أخرجتها بثقة زائدة وأشعلتها! لقد رآها فتاة ليل محترفة رغم براءة ملامحها ونبل مطلبها! وتحولت إلى كتلة من الرغبة يراود خياله، وظل عطرها يراوغ المفكر الكهل آناء الليل وأطراف النهار، حتى حاول تقبيلها فلطمته على وجهه لطمة خالدة في تاريخ الأدب العربي. فقد كانت هذه فكرة رواية “الرباط المقدس” للكاتب الكبير توفيق الحكيم، الذي أكد لنّا أن نظرة الشك في سلوك المدخنات ليس جديداً بل متجذراً في التاريخ الذكورى. فقد دخنّ الرجال السجائر على جبهات الحروب وفي ليالي الخوف من الأعداء وترقب الموت. وانتشرت زراعة التبغ وازدهرت مع رائحة الرصاص في الحرب العالمية الأولى؛ فلماذا تحشر تلك الصغيرة نفسها في هذا الدخان! هي لا تريد كسر التقاليد ولا تحطيم “التابو”، ولا التعبير عن رغبتها الجنسية وتحررها غير المحدود كما يتصور البعض. فكثيرات منهن تجد سلواها في التدخين كبديل عن الأمان المفقود، فلم تكن البنات قديما يحتجنّ إلى نفخ الدخان وحولهن أعمام وأخوال وأبناء جيران جدعان يحمونهن من كلاب السكك والمتحرشين فى الشارع والعمل. لم تضغط على أعصابهن كل هذه العوامل المؤذية والتي جئت أنت لُتزينها وتُقلل معدلات توترها وقلقها والغل الذي تنفخه مع دخانها على المقاهى. لا تنصح ولا تعظ، وخذها إلى “زينو دافيدوف” هذا الشاب الروسي الفقير المُعدم الذي صنع أمبراطورية ضخمة تغزو العالم كله بأفخر أنواع التبغ المسمى على اسمه “دافيدوف” الذي أنتج عطراً بنفس المسمى وصل حاليا إلى ثلاثين نوعاً. مات دافيدوف منتصف التسعينات على ما أظن؛ لكنه كان مُلهماً لكل صانعي التبغ في العالم وعلمهم أهمية شكل علبة السجائر، واستقدم رسامين مثلما فعلت مارلبورو بماركتها وحملات دعايتها، التي كانت تنتصر للرجل الأمريكي وتقدمه كفارس ومغامر ويشرب المارلبورو أيضا، وهي الصورة التي تم حفرها في وجدان جيل السبعينات. أما دافيدوف فقد ظل يهتم بتجويد صناعته حتى قال بثقة لكل مدخني سجائره “إن لم تعرف زوجتك رائحة هذا التبغ .. فتخلص منها” ـ الزوجة وليست السيجارة. هكذا ندخل عالم المدخنات يا صديقي، تفكر في منعها أو تحذيرها من مخاطرها فالنتائج لن تكون جيدة على كرامتك تحديداً وقد تجد ما يغضبك. أنت حكيم وقائد ومُعلم وعليك أن تجتهد لضبط إيقاع حياتكما فلا تجعل أمراً كهذا سببا في نفورك منها أو حذرك من ماض مجهول لا تعرفه. كن على مستوى جرأتها وتحين الفرصة وأسالها عن أول سيجارة وستجد سببا دراميا أو تافها أو خطيراً تماماً مثلما يعفر صديقك فلان، لأن فلان ضحك عليه وهو صغير وغرر بطفولته البريئة! هكذا الحياة! وعندما تحبها ستتحكم في مزاجها، وربما تجد في تدخين سيجارتها سحرا يناسب أجواء عاشقين يمارسان كل المتع سويا وبلا خوف. كثيرات من السيدات تغريهن الفكرة فقط، فتجدهن يخترعن شيشة بطيخ وعنب وبرتقال وخوخ ونعناع وفراولة، وسجائر بنكهات آخرى، على سبيل النفخ في الهواء ببعض الحرية. ولا تظنني عالم نفس أو بروفيسير في التنمية البشرية فأنا أهرطق مع صديق يشكو من المدخنات، وها أنت تشتري مني، وقد تبيع! ويحق لك تمزيق الكتاب وليس الاعتراض على رأي، لا يهم فثمن الكتاب وصل إلى خزانتي!.
مجلة الأثنين والدنيا 1947
مقتطفات من كتاب أن تحب في العشرين – للنابهين من الذكور
دار بتانه للنشر والتوزيع
اقرأ ايضًا: