فيرمونت هي نموذج متكامل لصفقة سياسية ضمت كل تناقضات مفهوم الصفقة من حسناتها، وسيئاتها، ومميزاتها، وعيوبها. ومن المثالية إلى الخداع ففيها كل ألوان الطيف وكل تعاريف واجتهادات الفقهاء والمنظرين في تحديد معناها. فجمعت بين المؤقت والدائم والتكتيكي والمرحلي. فمن ناحية الشكل كانت صفقة مكتوبة على خلاف كل انواع الصفقات التي غالبا ما تكون سرية، ولكنها كسرت المألوف وجاءت مكتوبة، وهذا سر تميزها. أما من ناحية موضوعها فقد كانت صفقة انتخابية، وأما عن دوافع إبرامها فكانت مخاوف الإخوان من تزوير الانتخابات. وعن مدتها فكانت من جانب القوى الوطنية دائمة؛ ومن ناحية الجماعة فكانت مرحلية لحين أعلان الانتخابات. ولو نظرنا إليها من منظور أخلاقي ”نجد أنها لا تعير أيّ اهتمام للجانب الإنسانيّ، فهي كانت بمثابة طاحونة ضحاياها البشر، جاءت عبر طرق ملتوية غايتها إنقاذ موقف معين بذاته، دون أن تهتمّ للتراكمات والأزمات الأخرى.
في 21 يونيو 2012 وبعد مرور خمسة أيام على انتهاء الجولة الثانية من انتخابات الإعادة بين مرشحي الانتخابات الفريق أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي، وقبل يومين من إعلان نتيجة الانتخابات؛ تلقى عدد من رموز العمل الوطني وقادة ثورة يناير 2011 اتصالا من ممثلي جماعة الإخوان لعقد اجتماع مع مرشحهم (محمد مرسي) بفندق فيرمونت التي كانت تخشى من تزوير نتيجة الانتخابات لصالح الفريق أحمد شفيق رجل مبارك بعد أن تأخر الإعلان عنها عن الموعد المقرر بعدة أيام.
بعد مناقشات دامت لمدة يومين انتهى الاجتماع بصدور بيان تلاه الإعلامي حمدى قنديل المعروف بميولة وتوجهاته الناصرية، قال فيه إن مجموعة من الرموز والشخصيات الوطنية والشبابية اجتمعت مع الدكتور محمد مرسى، واتفق الحاضرون على الشراكة الوطنية والمشروع الوطنى الجامع الذى يعبر عن أهداف الثورة وعن جميع أطياف ومكونات المجتمع المصرى. يمثل فيها المرأة والأقباط والشباب، على أن يضم الفريق الرئاسي وحكومة الإنقاذ الوطني جميع التيارات الوطنية، ويكون رئيس هذه الحكومة شخصية وطنية مستقلة.
عقب إعلان نتيجة الانتخابات وفوز محمد مرسي ووصول جماعة الإخوان للحكم بعد حلم دام لأكثر من 80 عام؛ انقلبوا على اتفاقية فيرمونت وضربوا بها عرض الحائط!!
وكان أول ما فعله محمد مرسي بعد نجاحه هو اختيار فريق رئاسي من قيادات جماعة الإخوان، ولم يضم أحداً من خارج الجماعة. ثم تطور الأمر باختيار هشام قنديل رئيسا للوزاء، وهو كادر إخوانى يفتقر لكل المعايير والاشتراطات التي سبق وتعهد بها في وثيقة فيرمونت. ورفض التشاور مع الجبهة الوطنية التي تشكلت في اجتماع فيرمونت، وتجاهل تعديل تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور. مما دعا حمدي قنديل الذي تلا بيان الجبهة أن يكتب في جريدة المصري اليوم مقال تحت عنوان “أنعي إليكم الشراكة مع الرئاسة»، وجاء ضمن ما جاء فيه:
(إن لم يكن قد بلغ الرئيس صدى تشكيل حكومة قنديل، فقد بلغنا نحن، بلغنا في انتقادات حادة حمَّلتنا كشركاء مسؤولية الاختيار، ومسؤولية خداع الرأي العام الذي أوحينا إليه باتفاقنا مع الدكتور مرسي أن الأمور ستسير على نحو أفضل». «اليوم، بعد تشكيل الحكومة على النحو الذي شكلت به، وبعد النكوص عن التعهدات التي أعلنت ضمن اتفاق الشراكة في «فيرمونت»، فإننا لا نستطيع تحمل مسؤولية هذه الشراكة، بل إنها في واقع الأمر لم تعد قائمة».
صفقة الكعبة .. وصعود الإخوان
وقد تعقد الصفقة بين دولتين أو أكثر، أي خارج حدود الدولة في مواجهة دولة أو دول أخرى. وقد تعقد داخل الدولة بين قوى سياسية معينة «معارضة في مواجهة الحزب الحاكم»، أو بين الحزب الحاكم وإحدى هذه القوى السياسية من المعارضة، وقد تكون بين ممثل السلطة وفرد من الشعب !!
فالصفقة تعرف من خلال مخرجات كل طرف في مواجهة الطرف الآخر.
فالدخان ينبىء حتما بوجود نار حيث يتسم كل ما يخرج عن هذا الطرف بالنبرة الهادئة في تناول هذا وذاك من موضوعات، ثم التفاهم بشأنها وتجنب كل طرف المواجهة المباشرة مع هذا الآخر أو ذاك. كما أن محاولة أي طرف للتغلب أو تجاوز الطرف الآخر، قد تدفع بهذا الآخر للرد الشديد دون نقل الخلاف إلى صراع في إطار «جس النبض»، حتى يطمئن كل طرف إلى ثبات الأطراف الأخرى على ما تم الاتفاق عليه على منضدة الاجتماع التي صيغت الصفقة حولها.
فعندما عقد السادات صفقة “الكعبة” مع جماعة الاخوان لم يكن أحد يعلم إلا الذين قادوا عملية التفاوض على بنودها حتى صياغتها بشكل نهائي، ولم يعلم حتى الباقين من دائرة صناع القرار. لكن بمرور الوقت بدات تتكشف على استحياء بنود الصفقة في شكل وقف الأجهزة الأمنية في متابعة عناصر الجماعة، ثم فتح الصحف لبعض رموزها، وتتطور الامر بالافراج عن عناصرها الأكثر تطرفا. من هنا اكتمل المكعب الناقص في جدار الصفقة واصبح لدى المواطن قناعة أن هناك صفقة بين النظام والجماعة لكن بنودها وتفاصيلها ظلت في طي الكتمان حتى مات السادات وبدات حمى وحرب المذكرات تشتعل !! وخرجت التفاصيل وحتى الملاحق السرية .
وأما عن موضوع «الصفقة السياسية»؛ فقد يكون وقف إجراءات التقاضى في قضية ما، أو التزام الصمت عن قضية من القضايا، أو دعم مرشح في انتخابات رئاسية أو برلمانية. وقد تكون الصفقة بالصمت بالامتناع وإلتزام عدم المشاركة فالصفقة عنوان يحتمل تحته كل شىء.
قد تستمر الصفقة على الوضع الذي عقدت في إطاره أو من أجله، إلى حين حدوث تغير أو تغيير موازين القوى بين الأطراف لصالح طرف. فيقوم بالعصف بالطرف أو الأطراف الأخرى.
ونموذج ذلك موجود ضمن دفتر احوال السلطة وهو صفقة الرئيس الأسبق حسنى مبارك مع جماعة الإخوان، والتي استمرت لمدة ثلاثين عاما بدات في ديسمبر 1981. عندما اوفدت وزارة الداخلية وكيل مباحث أمن الدولة في ذلك الوقت اللواء “فؤاد علام” لإجراء مفاوضات مع المرشد الخفي لجماعة الإخوان المسلمين المستشار على جريشة، والذي كان يقيم بألمانيا ويرأس المركز الإسلامى هناك. وكان أمام المفاوض المصري مهمة واحدة وأساسية لا تخرج عن الحصول على ضمانات من المرشد الخفي بعدم القيام بمظاهرات ضد الرئيس “مبارك” أثناء زيارته إلى ألمانيا في أول زيارة خارجية يقوم بها بعد توليه لمنصب الرئاسة خلفًا للسادات.
المفاوضات بين مرشد الظل للجماعة والوفد الامني؛ بدأت بصفقة ذات شقين ظاهر وباطن. أما الظاهر فكان طلب من مرشد الإخوان الحصول على صورة من ملف تحقيقات النيابة في قضية وفاة القيادى الإخواني كمال السنانيري، الذي وجد مشنوق في حمام السجن وأعلن عن وفاته 8 نوفمبر 1981. وأعلنت جماعة الإخوان وقتها أن الوفاة جاءت بعد ساعات من زيارة مجموعة من كبار ضباط مباحث أمن الدولة لسجن استقبال طره للتحقيق مع كمال السنانيري.
فؤاد علام الذي قاد عملية المفاوضات وابرام الصفقة يؤكد ارسال صورة من ملف التحقيقات إلى المستشار جريشة، وأن المستشار جريشة رد عليه بخطاب شكر.
وأما المقابل الخفي فقد ظهر مباشرة بسيطرة إخوانية على النقابات المهنية وزيادة أعضاء الجماعة بمجلس الشعب .
صفقة مع النظام – حمادة إمام – كنوز للنشر والتوزيع