ـ 1 ـ
الآن أشعر أن روحى تنسحب مني وأنا أتلوي، في محاولة جديدة للتماسك، استعدادا لاستقبال زبون، لا شك أنه سيتواطأ علي هو الآخر ويقلب في البضاعة ويفاصل في السعر.. الظهر لا يأتي والمخزن بلا باب يداريني أو حتي مكان أجلس فيه لتنطلق هذه النفايات.. كائنات راحت تتلوي في أمعائى ضاغطة بقوة علي فتحتى ، كائنات تكاد تنتفجر من عينىّ وأظافرى وأذنىّ . ، وأنا أمسك بالأقفاص محاولاً التحكم فى فتحتى انتظاراً لأذان الظهر الذي لن تنفتح أبواب مسجد الوكالة إلا معه.
الكراتين والأقفاص التي تملأ المخزن ليست مشكلة الآن، الكارثة في هؤلاء المارة الذين لا يتوقفون ولا تهدأ حركتهم.. الكائنات تضغط، وكلاب مسعورة تنهش روحي.. أشعر أن جسدي كله محتقن.. ولا مفر.. أفسحت مكانا لقدمي بين الكراتين في المخزن وانحنيت ـ فقط انحنيت ـ وضغطت ضغطة واحدة هينة لم أكن في حاجة لها إلا لانطلاق أكبر قدر من الثعابين والديدان التي نهشت روحي، وفي أقل من ثانية رفعت البنطلون وعدت سريعا إلي الفرش وأنا أحمد الله كثيرا، وكأنني لأول مرة أجرب متعة خروج هذه الكائنات، فلم يكن هذا الفعل يمثل أهمية بالنسبة لي قبل ذلك اليوم.
في الوكالة لم يكن مطلوبا مني سوي الوقوف علي كرسي خشبي، ممسكا بيدي بنطلونا وحول عنقي قميص وأنادي في غنائية”بسبعة ونص.. تعالي بص.. حزين يا مفلس”، وذلك بعد أن أكون قد رتبت البضاعة علي الأقفاص المتراصة أمام المخزن، بحيث يكون الشتوي منفصلا عن الصيفي، وهذا الدور حدده لي المعلم “ظريف” صاحب الفرش مقابل خمسة عشر جنيها كل سبت، وجنيه كمصروف يومي.
علي أن هذا الدور كان يصبح هامشيا في أحيان كثيرة، حيث كنت مطالبا بلعب أدوار أخري فبعد انتهاء يوم العمل الذي يبدأ في التاسعة وينتهي في التاسعة، كنت مطالبا بتكييس القمصان، بمعني كيها وتطبيقها بالشكل الذي ظل المعلم “ظريف” يعلمني إياه ثلاث ليال، والذي يمكنني من تحويل قميص مهترئ ـ بالة في لغة الوكالة ـ إلي قميص جديد تلمع أزراره في كيس بلاستيكي شفاف بعد تدبيس الأكمام للخلف.
وهناك أدوار أخري بسيطة أقوم بها وسط النهار، فأنا باعتباري صبياً لظريف مطالب بأداء نفس الدور مع الأستاذ “عماد” وعم “خليل” باعتبارهما صديقين له.
الأستاذ “عماد” يعمل في فساتين الزفاف والسهرات، وعلي أن أقوم بتلميع كل فستان بقطعة من القماش مبللة بالماء والكولونيا، بحذر شديد حرصا علي فصوص الترتر والدانتيل المطرز، ثم أعيده الي الجسد الخشبي أو المانيكان.
ومع عم “خليل” علىّ أن أفصل الكلوتات والسونتيانات الصغيرة عن مثيلاتها الأكبر حجما، فلكل منهما سعر مختلف عن الآخر، ثم أجمع الكلوتات المثقوبة في كرتونة منفصلة لمعالجتها،والحقيقة أننىأكتشفت في نفسي مهارة لم أكن أتخيل أنني امتلكها، فالإبرة أصبحت بين أصابعي كما المشرط في يد الجراح، أعالج بها القطوع وأستبدل الأستيك المهترئ ، وبقرار مني أستبعد ما أراه غير صالح للعلاج. والحقيقةأيضاً أنني كنت أجد متعة خاصة في هذا العمل تحديدا، أعيش مع القطع الصغيرة، أتحسسها وأشمها، بحثاً عن تلك الروائح التي تحمل وهج اللحظات القديمة ،اللحظات الدافئة التى كانت عليها قبل أن تصل إلي هنا: هذا السونتيان الكحلي المحتفظ بحالته واستقامة حمالتيه كان لامرأة ممتلئة تجيد اختيار الألوان.. عطرت صدرها ثم “دفسته” هنا قبل أن تضغط هذه “الكوبشة” لينفرط، أو يندلق بحلمتيه البنيتين بين شفتي رجل محظوظ.
وذاك الكلوت الأحمر المزركش لأخرى ،سمراء نحيفة، تعرف كيف تسلته بإصبعيها وهي مستسلمة بين يدي رجل لا شك أنها واعدته وتسللت إلي شقته وراح يتنقل بقبلات صغيرة من ذراعيها إلي ظهرها ثم تحت إبطيها ونهديها.
ـ 2 ـ
فرش “ظريف” عبارة عن مخزن يستأجره من المعلم “زخاري” مقابل مائة جنيه في الشهر ومعه الرصيف العريض الذي يضع عليه أقفاصا متراصة، ما إن يضع حصوات صغيرة تحتها ويفرش فوقها ملاءة بيضاء ويرتب بضاعته حتي تصبح كواحد من أكبر محلات شارع شريف.
ظريف لم يكتسب لقب “معلم” إلا منذ فترة لا تزيد علي الخمس سنوات، بعد أن انفصل عن إخوته الذين يمتلكون واحدا من أكبر المحلات في تجارة الستائر والبياضات ورثوه عن والدهم المعلم “بشري شفيق”، ظل “ظريف” يعمل لديهم صبيا ينقل أثواب القماش من المخزن إلي المحل، ويحمل الخضار والعيش إلي زوجاتهم كل صباح ليس باعتباره الشقيق الأصغر بفارق كبير في السن، ولكن باعتباره غلطة أبيهم التي ارتكبها دون مبرر، حين قرر الزواج نكاية في والدتهم وهو في الخمسين من عمره.
والدة المعلم “بشري” القصيرة النحيفة بعينيها الضيقتين ، لعبت الدور الرئيسي في تلك الغلطة التي تحولت إلي مأساة، فكثيرا ما كانت تعنف ابنها الذي ضحي بأطيان ومحلات ذهب كانت ستصبح من نصيبه لو سمع كلامها وتزوج واحدة من بنات شقيقاتها في أسيوط، وكان “بشري” يضحك: “يا أم بشري هاتي حتة طين وأنا أعملك واحدة أحلي من بنات اختك كلهم، وبعدين دهب إيه وبتاع إيه دول مش لاقيين ياكلوا”، لكنها لم تتوقف عن لعب دور الحماة الشريرة حتي بعد أن أنجب “بشري” أربعة ذكور، وأصبح مستقرا مع “جميلة”…. أم كحلة وقصة اللي أبوها لاوراه ولا قدامه، كما اعتادت أم بشري أن تصفها.
في آخر زيارة لها قضت يومين مع “جميلة” لم تتوقف خلالهما عن الشكوي منها، وفي صباح اليوم الثالث ذهبت إلي “بشري” في المحل محتقنة ببكاء درامي: “أمك اتمرمتت في بيتك يا بشري”، اقشعر بدن بشري خاصة أن مزاجه كان متعكرا هذا الصباح كما قال بعد ذلك لـ”جميلة”، ودون تفكير سوي في المهانة التي وجهتها زوجته إلي أمه، وضع الشال المزركش علي رقبته وتوجه إلي المنزل، وطلب من “جميلة” الانتقال إلي أوضة العيال بعد أن كلمها وأسال الدم من أنفها.
وفي الصباح استقل القطار مع أمه إلي أسيوط وتزوج “بسيطة” ابنة خالته.. العانس القبيحة التي لم يحتملها أكثر من شهرين، لم تمض ليلة خلالهما دون أن يضرب رأسها في الحائط، وقبل أن يسحبها من يدها عائدة إلي أسيوط كان قد زرع في بطنها بذرة “ظريف”.
لم يعترف أبناء “جميلة” بأخوة “ظريف” لهم، ليس للموقف الديني، فوالدهم كان معروفا بفوضوية فطرية تسمح له بممارسة الكثير من الأفعال دون أن يلومه أحد، حتي وإن كان قد شعر بعد ذلك ببعض تنغيص الضمير الديني، فإن ذلك كان بينه وبين نفسه فقط، وربما كان ذلك وراء نسيانه حكاية زواجه هذه كأنها لم تحدث.
كان “بشري” يسير في الوكالة بعينيه المنتفختين، يملأ جيوبه بالسوداني واللب يوزعهما مثلما يوزع ضحكاته وسخرياته. وكل ما يتعلق بالكنيسة أو التدين يتحول لديه إلي سخرية لاذعة: “يا عم أنا مش عايز أدخل الجنة، مش عايز الجماعة الفقرا، مش عايز بتوع الكنيسة والجامع، وقال الرسول وقال المسيح، أنا عايز أروح النار مع النسوان الحلوة والرقاصات وبتوع الهشك بشك”.
العديد من حكايات المعلم بشري في هذا الشأن مازال عالقا بالأذهان إلي الآن، يحكي أحدهم عن طرائفه وقبل أن ينهي المستمعون ضحكاتهم يغمغمون ويمصمصون بأصوات متداخلة “الله يقدس روحك يا معلم بشري.. كان راجل زي الفل”.
رفض أبناء جميلة الاعتراف بأخوة ظريف كان لأسباب أخري تخص المزاحمة في الميراث، صحيح أنه كان رفضا غير معلن إلا أن تصرفاتهم معه التي جعلته أشبه بالخادم، كانت تكشف حقيقة مشاعرهم تجاهه حتي جاء ذلك اليوم الذي ذهب فيه المعلم بشري إلي أسيوط، وعاد ممسكا بمعصم طفل في الثامنة من عمره، كان هذا الطفل هو “ظريف” الذي لم يعرفوا عنه شيئا قبل تلك اللحظة، والذي أصيبت أمه بلوثة في رأسها وحاولت خنقه أكثر من مرة، ولولا ذلك ما استجاب المعلم بشري لإلحاح الأهل والأقارب وقرر أن يأخذ ابنه ليعيش معه بعد أن ظل رافضا ذلك، طاويا تلك الصفحة ومكتفيا بإرسال المصاريف والملابس إليه في المواسم والأعياد.
ـ 3 ـ
هل سيغضب أحد مني، أو يسخر إذا قلت إنني كنت أحب الحزب الناصري، وأن عدم انتمائي إليه اعتراضا علي أن يتحول هذا الكيان العظيم ـ بالنسبة لي علي الأقل ـ إلي مجرد بطاقة عضوية أضعها وسط الأوراق؟!
كنت أراه أعظم وأنبل من ذلك فهو الحزب الذي سيقود البلاد في يوم من الأيام، وكان يوم انضمامي لصحيفة الحزب واحدا من تلك الأيام التي أحفظ أحداثها حتي الآن.
صدقوني أرجوكم، فأنا الآن وبعد أن عرفت أنني محول للتحقيق لسبب تافه وحقير لا يليق بحزبي العظيم، ينتابني إحساس بالهزيمة، تأملوا معي كلمة هزيمة عندما يقولها رومانتيكي مثلي، إنها قاسية ومؤلمة مثل: “خيانة، وبيع ضمير، وعمالة، وأمن دولة، ومرتشي، وبتاع حكومة، وفاسد”.. مهزوم هزيمة العاشق الذي تنتهي قصة حبه لفتاة حالمة رآها ملاكا قبل أن يراها في أحضان رجل آخر.
أشعر الآن بعيني تائهتين مكسورتين، ويبدو وجهي محتقنا ببكاء حارق في انتظار لحظة انفجار تشبه تلك التي أطلقتها عندما رسبت في الثانوية العامة، كنت أجرب الرسوب للمرة الأولي بعدما كنت أراه شبحا بعيدا عني تماما، بل ويخص أشخاصا آخرين.
عشر سنوات وأنا أحب هذا الحزب، عملت في صحف عديدة لا لشيء إلا لأن رؤساء تحريرها ناصريون، لم أفكر لحظة واحدة في العمل بعيدا عن صحيفة تحمل علي صفحتها الأولي صورة للزعيم.
لكن كل ذلك ينهار الآن وأنا أستعد لتحقيق مطول ورسمي بحضور رئيس الحزب نفسه لسبب كاريكاتيري، وكأننا لا ننظر إلي ساقينا إلا بعد أن يدهسهما قطار سريع.
انعكست الصور ورأيت نفسي في حجم رأس الدبوس وأنا أعود حزينا ذات يوم لأنني لم أشارك في حمل رئيس التحرير علي كتفي في مظاهرة شاركنا فيها أيام حرب الخليج الأولي، كان مهيبا، قويا، يضرب الهواء بقبضة يده بينما الكرافتة النبيتي بخطوطها البيضاء مفكوكة حول عنقة، غير مبال بجاكت البدلة الكحلي ولا بشعره المشعث:
“سامع صوت الشعب الثاير بيقول بس كفاية مذلة.. نفس الصوت اللي ف بغداد بيقول شد الحيل يا رام الله”.
أضحك الآن علي نفسي والذاكرة تتواطأ ضدي وتعرض مشهدا لي وأنا أهتف في نقابة الصحافيين: “يا حرية فينك فينك أمن الدولة بيني وبينك”، كنت سعيدا، أشعر بالعرق باردا يسيل بهدوء علي خدي منسحبا من فروة الرأس ومتجمعا حول ذقني وحاجبي ومنهما إلي رقبتي، كانت رواتب زملائنا المعينين بالصحيفة قد تأخرت أربعة أشهر، ومكافآتنا نحن غير المعينين زاد تأخيرها علي الشهر الثامن، وبعد مداولات وتردد وافق رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة علي الاعتصام بمقر النقابة لنلعب مع الحكومة نفس لعبتها: نضغط عليها مثلما تخنقنا كي نصاب بالإحباط واليأس ويتم إغلاق الصحيفة، صحيفتنا التي تزعجهم ليل نهار وتسرق النوم من عيونهم وتكشف سرقاتهم لهذا الوطن، وبالتالي لم يجدوا طريقة لإغلاقها وإسكات أقلامها سوي التضييق عليها ماليا، بحرمانها من الإعلانات أولا، ومطالبتها بالديون المتراكمة عليها في المطابع ثانيا.
ولا أعرف لماذا لم أفكر في هذه النكتة المضحكة مطلقا: الحكومة تدفع لنكتب ضدها، ثم تتحمل تكاليف الطباعة، وتبحث لنا عن مصادر تمويل عبر إعلانات وزاراتها: “الصحة والسكان والبترول والثقافة”، ونحن ننشر هذه الإعلانات في الصفحة الأولي.. ثم نتظاهر ضدها!
كنت ساخنا جدا، يعلو وجهي غضب لا يخلو من الأسي، واللافتات الضخمة خلفي بخط الرقعة الأحمر “مش ح نطاطي مش ح نخاف لو ح ناكل خبز حاف”، “لا لسياسة العصا الغليظة”.
كل ذلك أراه الآن فقط وأنا أخرج من مكتب المدير العام الأستاذ “شعبان حسن” بعد أن أخبرني بموعد التحقيق.
في ذلك اليوم المشئوم استقبلني الأستاذ “خلف نورالدين” الذي يعمل ناقدا سينمائيا في الصحيفة، وهو ـ وله العذر بسبب ضعف نظره الشديد ـ يكتب النقد دون أن يذهب لمشاهدة الفيلم، مكتفيا بقراءة ما كتب في الصحف الأخري، لكنه وفي تحد حقيقي يبحث في كل المكتوب عن خيط يناسب الصحيفة حتي يكشف الزيف والادعاء أو الترويج لأفكار معينة عن الأمركة والتطبيع، فالسينما تلعب لعبة خطيرة في هذا الشأن، والأستاذ خلف ـ رغم خلافي معه ـ كان عملاقا في هذه المسائل، وكشف عن محاولات سينمائية عديدة لإلغاء فكرة الهوية العربية والمشروع القومي والوحدة العربية، وعقد مقارنات عديدة بين أفلام التسعينيات وتلك التي قدمتها السينما في الستينيات فترة العزة والكرامة ومقاومة الاستعمار، وكنت أحترم فيه ثقته المفرطة فيما يكتب وفيما يصل إليه من أفكار صريحة وجريئة وحاسمة لا تقبل القسمة علي اثنين، ولعل ثقته هذه فيما يكتب هي التي دفعته لقص مقالاته وتصويرها في أحجام كبيرة ووضعها تحت زجاج المكتب حول صورة له وهو يسند وجهه إلي كفيه سارحا، متأملا في الحياة، أو وهو يمسك ذقنه بإصبعيه.
وتاريخ الأستاذ “خلف” ناصع البياض، فهو من أبرز قادة مظاهرات 18 و19 يناير، ولولا أنه يرفض المناصب لكان الآن أحد قادة الحزب، فهو أكثر المنتمين إليه بصدق وتشهد مواقفه العديدة علي ذلك، ويكفي أنه تصدي للكاتب “أنيس منصور” ثلاث مرات حتي قبل أن يصدر الحزب صحيفته، ونشرت له الأهرام نفسها في صفحة البريد أحد هذه الردود، وكان تعيينه في الصحيفة مكسبا حتي لو لم يكتب النقد.
ورغم تقديري هذا له كنت أعرف أنه لا يستريح لي، ولكن في ذلك اليوم المشئوم رأيت في عينيه كراهية وغلا لم أرهما في عيني أحد من قبل، ويبدو أن دماثة خلقه وأدبه الجم كانا يمنعانه من إبدائهما.
يا أهلا يا سعيد بيه، عشان أنا لما قلت اللي ما يعرفوش مقر الحزب فين ما ينفعوش يكتوبا في جرنان عبدالناصر ما حدش صدقني، ولما قلت إنك صغير علي حكاية سكرتير تحرير دي، وإنك مش عضو في النقابة، قالوا لي أنت مش عايز حد يكبر، أديك كبرت يا سيدي وعملت مصيبة سودا.
ـ مصيبة إيه وبتاع إيه يا أستاذ “خلف” خلصني.
ـ دُوست علي “عبدالناصر” برجليك يا أستاذ.. حضرتك دوست ع الزعيم وحطيت “النحاس” اللي باع البلد للإنجليز والملك فوقيه كمان.
ـ إزاي يعني؟.
ما شفتش الجرنان إياك؟ ما شفتش صورة “النحاس” كام وصورة “عبدالناصر” كام؟ اتفضل يا بيه، المدير العام مستنيك.
دخلت مكتب الأستاذ “شعبان حسن” الفخم الذي أشعر كلما دخلته أنني في مكتب طيران، وقبل أن ينتهي أنفي من استنشاق رائحة البارفان المخلوط بالبخور وجلد المقاعد، هبّ من مكانه:
ـ أنت فين ياسيدي؟ إيه اللي عملته ده؟
ـ يا أستاذ شعبان أنا لغاية دلوقتي مش فاهم حاجة.
ـ مش فاهم.. ؟!، يعني يا أستاذ لما تنزل صورة عبدالناصر أصغر من صورة النحاس بخمسة سنتي في جرنان عبدالناصر يبقي شكلنا إيه؟، دي مسئوليتك ولا مش مسئوليتك؟ إحنا خليناك سكرتير تحرير من غير تعيين عشان تهين الزعيم؟.. بتضحك؟! بكرة الساعة حداشر الصبح تكون هنا يا أستاذ.. رئيس الحزب جاي بنفسه عشان التحقيق.
ـ 4 ـ
“ظريف” في البداية وضع لي الخطوط التي يجب أن أسير عليها والتي تبدأ من الأسعار فمن حقي أن أبيع القميص بسبعة جنيهات وكذلك بخمسة مع الزبون “الغتيت” أو في يومي السبت والأربعاء اللذين يكون البيع فيهما محدودا.
ودرس الأسعار كان سهلا مقارنة بدروس اللغة المعتمدة في الوكالة، والتي استعنت في مذاكرتها بعم خليل والأستاذ عماد أيضا، فهي اللغة التي سأستخدمها مع ظريف في أوقات ضغط الزبائن وأيام الجمع والعطلات الرسمية.
طموحات “ظريف” العريضة جعلته يتعامل كصاحب ثأر قديم مع الحياة والزمن وتراب والده، كان متوجسا دائما، حذرا، وبخيلا لدرجة أنني لا أذكر مرة رأيته يأكل أو يشرب شايا، عندما طفحت المجاري وأحدثت قلقا في المربع، رفض وبشكل قاطع الاستعانة بسباك رغم إلحاح المعلمين خوفا علي حركة البيع والشراء، وخلع جلبابه الأسود الكالح وغطس بساقيه وذراعيه أكثر من ساعتين حتي أصلحها “هاتوا بقي الفلوس اللي كنتوا ح تدوها للسباك”، ورغم ذلك فقد ترك مسئولية الفرش لي وتفرغ هو لمسئوليات أخري تبدأ من بحث دائم عن بضاعة جديدة ورخيصة، ولا تنتهي بمتابعة الترزية الذين يقدم لهم أثواب القماش ليأخذها قمصانا خلال يومين وهي الطريقة التي لم يكن سعر القميص يكلفه بها أكثر من ثلاثة جنيهات.
والحقيقة أنه لم يعطني الأمان بسهولة، ولكن بعد اختبارات كثيرة تأكد بعدها أن صبيه الجديد أمين، وتلك صفة نادرا ما يمتلكها صبي في الوكالة.
كان “ظريف” يرسل أشخاصا يعرفهم إلي علي أنهم زبائن، ويعود يسأل: بعت حاجة ؟، وكنت أقول ما حدث دون أن أعرف أن الزبائن كانوا مزيفين، ورغم ذلك ورغم أنه كان يتفاخر بي أمام باقي المعلمين، واضعا ذراعه علي كتفي أمامهم: “سعيد ده زي أخويا وأكتر.. واد يافت صحيح”.
إلا أنه لم يكن مزعجا بالنسبة لي أكثر مما كان وهو يردد هذه العبارة، كنت أشم فيها رائحة التخوين أو علي الأقل أراها محاولة ساذجة منه لتوجيه تحذير، أو رسالة شديدة اللهجة كي أتوقف عن سرقته مثلا.
والغريب أنني كنت أجد نفسي مطالبا بتقديم ما يشبه إقرار الذمة أمامه، أحاول ـ جاهدا ـ أن أبرئ ساحتي من تهمة ما تفصح عنها نظرات عينيه اللتين ورث جحوظهما عن والده.
أما انزعاجي العادي فهو دائم ومستمر: أتوتر في وجوده، وأشعر به يراقبني وهو بعيد، يداهمني في تلصص كلما عاد من مشوار كأنما يدخل رهانا مع نفسه لإثبات جريمة ما أرتكبها من وراء ظهره. فهناك شئ غامض داخله يجعله متيقنا أن عملا ما، أو فعلا ـ ما ـ يحدث وعليه أن يكشفه، ليست سرقة بلوفرات أو قمصان تحت الجاكت الذي ألبسه فقد خابت ظنونه تلك عندما افتعل دور الأخ الأكبر بعد أن أغلقنا باب المخزن في أول أسبوع لي معه، ضرب المفاتيح في جيبه، والتفت نحوي: “طيب.. بكرة بدري وحياة والدك يا سعيد.. عشان موسم المدارس خلاص ح يبدأ”، وقبل أن أهز رأسي هزات متتالية “حاضر يا معلم.. حاضر” كان قد اقترب مني تماما وضرب بطني بكفيه ضربات خفيفة: “طيب يا سعده.. مع السلامة”، شعر بعدها بالخجل، ليس لأن يديه لم تقعا علي جسم الجريمة مخبأ عنه فقط، ولكن لما وضح علي وجهي من ضيق، لا، ليس ضيقا، بل تأنيب، وعتاب علي ما فعل، علي سوء ظنه بي، وشكوكه في ذمتي.
إذن ليست هذه، ليست سرقة قمصان أو بلوفرات أو حتي فلوس، هي شئ غامض يستحق منه أن يظل مستريبا في أمري، وأن أظل أنا هكذا: متهما ومطالبا بالدفاع عن نفسي، عن خيانة، أو سرقة أو أي شئ.
* هامش:
للوكالة لغة خاصة بها:
لحلوح = الجنيه
حبيشة = خمسة جنيهات
عصارة = عشرة جنيهات
حنطور = عشرون جنيها
يافت = رائع أو جميل أو مجدع
حاذي نظر أو “فريك” = احترس أمامك حرامي
حاذي ع الشايط = اعطه بضاعة رديئة
حاذي ع اليافت = تقال لمجاملة زبون
مهمش الزبون، أو: أبرز الأبوز: أضحك عليه.
اللوحة للفنان فان جوخ
…………..
ودع هواك
ميريت 2008