الأرض لم تكن أرضاً،كانت طفلة مجنونة تتقلب فى البراكين والزلازل وإن تشقلّبت طوت تحتها ديناصورات وعماليق من الجن، كانت نرجسية أيضا فعندما أراد الرحمن خلق آدم بعث إليها بملاك يطلب منها الطين فلم تخش الملاك رغم طفولتها وجنونها واستغاثت بالرحمن وقالت: إشمعنى أنا؟!، فعاد الملاك إلى رب العرش العظيم يخبره بأمرها، فهدهدها الرحمن ووعدها بأن يعود إليها كل ما أخذ منها،ولم تصل رسالة الإله إلى أحد من البشر كما وصلت إلى أجدادك المصريين الذين عرفوا السر مبكرا:
الأرض بطبقاتها وكنوزها وأسرارها .. والسماء بأقمارها وشموسها ونجومها ،منهما الحياة وإليهما الحياة الآخرى، ولن تصل إلى نعيم الأرض وروح الله الساكنة فيها إلا أن رويتها وأنت مؤمن بتلك القدرة، وليس هناك نعمة إلهية أوسع من النيل،هو رجلها وكاشف أمرها وأسرارها ، النيل والأرض.. والنور والظلام، كانت المهمة صعبة، لكن النيل الإله حابى العظيم كان عونا كبيرا واستحق الألوهية والعبادة وتقديم القرابين من العرائس والبشر كى يفيض ويعرف قيمته فى حياة كل هؤلاء العباد.
وصنع الجد العظيم حياة وحضارة وزرع وحصاد وصلوات وابتهالات لخالق الشمس وفالق الحب والنوى، كان يصنع كل ذلك وهو مشغول بالخلود بالأرض، فعرف الطريق إلى الروح التى تحمل الخير والشر والأحلام والأمنيات وراح يحلم بالبعث.
وكتاب الموتى عرض مسرحى مذهل متكامل الفصول والبدايات والنهايات، عرض مستلهم من تأملات المصرى فى الوجود ودورة الحياة فإن كانت الأرض تحمل أسرارها فإن فيضان النيل يغمرها فيحييها ثم ينحسرعنها فيميتها ثم يبعث من جديد ليحييها ثانية، ويتحول النبات بعد موته إلي حياة تدفن فى الأرض ثم تبعث فيها الحياة مع فيضان النيل ثانية فيخرج النبات الحى من
الحبة الميتة.. وحق قول الحق فى محكم التنزيل:(ومن أياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحيى الموتى إنه على كل شئ قدير)، وكما رأى المصرى القديم دورة الأرض متأملاً خاشعا، كذلك رأى الشمس فى ميلادها وراقبها وهى تدور حتى تغيب فى مغربها ،ومع النور يكون البعث الجديد، وحياتنا هى تلك الرحلة البسيطة التى تنتهى على الأرض بانتهاء الجسد لتبدأ حياة الروح وتبدأ طقوس كتاب الموتى من هذه اللحظة ،بوضع الميت في بطن الأرض التي خرج منها على طريقة وضع الجنين في بطن الأم عند خروجه للحياة الأولي تعبيرا عن ميلاده الثانى أو بعثه في العالم الآخر، يرقد فى سلام على جانبه الأيسرحيث القلب أو القرين الذى سيلازمه فى العالم الآخر، أما الوجه فناحية غروب الشمس في طريقها إلي العالم الآخر الذي سيتوجه إليه تحمله مراكب الشمس أو سفينة الروح، مع وضع حاجياته الأولية من أدوات الزينة والمأكل والمشرب وبعض حاجياته المنزلية مع بعض صفحات من كتب الموت ونصوص التلقين والدعاء، بعدها سيجد سفينة تأخذ الروح بصحبة أوزريس فى رحلة عبر السموات حتى قاعة الميزان والمحاكمة على الخطايا، لكنه لابد وأن يتلقى أول التعاليم حتى يصل إلى المحاكمة وجلالها وهيبتها:
“أيها الراحل إنك لم تمت بل دخلت بأمر الله إلي القبر لتخرج من بابه الآخر لتلقي أوزوريس في محكمة الآخرة – لن تحمل معك إلا أعمالك التي تضعها في الميزان لنتلقي حكم الاله الأعظم خالق الكون والكائنات ليتحدد مكانك باعادة مولدك في عالم الخلود، إن قلبك قرين حياتك وهو الظل الذي يلازمك حتي تقف بين يدي الاله عندما تسأل وتجيب علي اسئلة القضاة فهوالقرين الذي لازمك في الحياة الأولي وشاهد علي أعمالك فلا تحاول أن تكذب فالخطيئة تضاعف إذا انكرتها، فإذا اخطأت قل إني مذنب وقد أخطأت لأني بشر فاغفر لي يارب والرب يغفر ذنوب المؤمن جميعها إذا اعترف بها وطلب العفو ولا تنس ان ملكي الحسنات والسيئات يقفان إلي جوارك وأنت تدلي بالشهادة.
فلا تظلم نفس شيئا..
التفاصيل الكاملة لمشهد المحاكمة
الحلقة الأهم فى رحلة البعث هى الوصول إلي محكمة العالم الآخر – عالم الخلود – حيث ترسم البردية لوحات ونقوش لقاعة
المحاكمة، كما تصف شكلها وهيئتها بالتفصيل ،فها هو “أوزوريس” يتصدر القاعة وهو جالس علي عرشه وأمامه مائدة القرابين والنذور باعتباره رئىس محكمة العالم الآخر، وتقف على جانبيه كل من “ليزيس ونفتيس” ملكتا الحسنات والسيئات، تحمل كل منهما الكتاب الذى سجلت فيه ماقام به المتوفى من أعمال فى حياته الدنيا، ويصطف علي جانبى القاعة (تاسوع عين شمس) الإله الأعظم رب الأرباب آتون (الذى يصور على شكل حورس حامل قرص الشمس) وخلفه المحلفون ملائكة الأبواب الأثنى عشر (أبواب البروج السماوية) التى نزلت منها روح المتوفى فى ميلاده الأول بالأرض.
علي الجانب الآخر من القاعة يجلس هيئة القضاة الاثنين والأربعين وعلى رؤوسهم ريشة “ماعت” العدل والحق.
وفي وسط القاعة يظهر الميزان محور المحكمة، يشرف على الميزان المعبود “انوبيس” حارس أرواح الموتى فى القبور يقف خلفه “تحوت” كاتب الآلهة الذى يحمل لوحا يسجل عليه نتيجة الوزن ويتحقق منه.
يقف خلف “تحوت” حيوان بشع على شكل رأس تمساح وجسد أسد ومؤخرة فرس النهر، ويسمى الملتهمة ،وهو أحد زبانية الجحيم، كما يقف “حورس” (قائد الموتى إلي المحكمة) وهو يقود المتوفى إلي الميزان، كما تقف علي جانبى الميزان الملكتان “رتنوت” و”مسخت” تمثل الأولى ملكة الولادة فى الحياة الأولى – والثانية ملكة الولادة الجديدة فى عالم الخلود.
وتبدأ المحاكمة بدخول المتوفى يقوده حورس سائق الأرواح إلي المحكمة وبعدما يلقى بعض التعاويذ التي تلقنها فى القبر والتي وردت نصوصها فى كتاب الموتى يبدأها بالشهادة بإيمانه بالاله الأعظم والتعاليم التي حملها “أوزوريس” فى رسالته إلي البشر والتمسك بشرائعه وما ورد في كتابه ثم يتقدم نحو الميزان فينتزع “حورس” قلبه أو قرين حياته والشاهد علي أعماله
ويضعه فى إحدى كفتى الميزان ويضع فى الكفة الأخرى ريشة ماعت رمز الحق والصدق والعدل.. وحق قول الحق ( مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عنيد) ،وبنهاية الميزان وتقييم الأعمال التى يسجلها “تحوت” فى لوحاته تبدأ المحاكمة بأسئلة القضاة الأثنين والأربعين – يسأل كل واحد منهم سؤالا محدداً يجيب عليه المتوفى ويقوم “تحوت” بتسجيل الإجابة ويقارنها بوزنها الحقيقى فى الميزان، بعد الانتهاء من أسئلة القضاة يرفع “تحوت” (رسول الملائكة) نتيجة المحاكمة إلى المحلفين الذين يرفعونها بدورهم إلي الاله الأعظم الذى يصدر حكمه بمولده الجديد في جنة الخلد ودخوله في أحدى أبواب طبقاتها السبع – أو تحمله الزبانية إلي أبواب طبقات الجحيم حتي يتم تطهيره من ذنوبه أو الحكم بفنائه.
“والوزن يومئذ الحق”، وقد احتل الميزان أكثر من موضع فى كتاب الموتى ،فهو ملازم للإنسان فى الحياة الأولى إلى أن يلتقى معه فى محكمة العالم الآخر: (خلق الإله كل شئ فى الكون بالميزان، يخلق الانسان بميزان العدل والحكمة وزودة بتشاريع السماء ليزن بها أعماله فى الحياة الأولى، فأعمال الإنسان فى الحياة هى التى تحرك كفتى الميزان فى الصعود والهبوط بثقل الموازين وخفتها وتقوم “راننوت” ملكة الولادة في الحياة الأولي بتسجيلها في كتاب الحساب الذي يحمله معه إلي محكمة الآخرة حيث يعاد وزن الأعمال فى محكمة الأخرة: (زن أعمالك فى الحياة قبل أن يعاد وزنها فى ميزان الآخرة حتي تقابل الإله بنفس مطمئنة وروح راضية)
(قلبك هو قرينك ودليلك إلي الميزان، فلتكن روحك مضيئة ونفسك راضية عن أعمالك حتى تطمئن إلى قلبك الذى سيشهد عليك عند وضعه فى الميزان) .
لماذا يأخذ الميت الذهب والزهور ؟
ليس صحيحا أن جدك المصرى القديم كان ساذجا لدرجة أنه كان يأخذ حاجياته معه كى يستخدمها حين يستيقظ!، هذا كلام فارغ كما يؤكد المترجم د. فيليب عطية ـ الذى أريدك أن تحفظ اسمه لما قدم لنا من عمل عظيم ـ ، فالروح هى التى تصعد وتهنأ بحياتها الآخرى بعد المحاكمة، وما وصلنا مما كان يوضع فى المقابر من أدوات أو طعام أو من زخرفة المقابر وتزويدها بأدوات الزينة والمصاغ والذهب والآثاث والزهور فهى ذكريات الميت فى حياته الأولى ويقدم بعضها بصفة قرابين ونذور للآلهة لذا فقد استعيض عنها في كثير من مقابر الدولة الوسطي بزخرفة حوائط المقبرة بالرسوم والنقوش التي تعبر عن الحياة العامة
والخاصة التي عاشها وعاصرها صاحب المقبرة بالإضافة إلي ماقام به من أعمال فى حياته لخدمة المجتمع وماقام به من أعمال لآخرته تمهيد لطريق النور إلى عالم الخلود، والكنوز الغنية التى احتفظت بها مقابر المصريين القدماء من تماثيل وتحف وأدوات تملأ غرف المقابر والصور والنقوش التى تزين حوائطها، عبرت عن الحياة الاجتماعية العامة والخاصة فى المكان والزمان بجانب النقوش والنصوص الدينية التى تغطى أسقف غرف الدفن وأغطية التوابيت وكانت المرجع الأساسى الذى استلهم منه المؤرخون والباحثون فى تاريخ الحضارة المصرية ماساعدهم على كشف أسرار الحضارة وتسجيل تاريخها في مختلف نواحيها الاجتماعية والعلمية والسياسية والدينية.
وبعد ، فقد حاولت اختصار هذا الكتاب الضخم بتفاصيله وحذفت الكثير من أسماء الآلهة حتى لا ترتبك لديك الصورة ، وكل ذلك كى أفتح أمامك نافذة يمكنك أن ترى منها أكثر لو أحببت ذلك .