الراويات تقول إنه مات في السادسة والثلاثين، وملامح الفتى الطيبة بزيادة على لزوم الطيبة تثير الشجن بتسريحة شعره البريئة للغاية، وتفاصيل حياته عذابٌ في عذاب، وكأن الدراما لن تكتمل إلا بمرض مبكر يلازمه حتى الرحيل، وبقصة حب مُضنية وشاقة كانت الأخيرة في حياته القصيرة بعد مغامرات كثيرة سابقة تحدث عنها باستفاضة الكاتب الكبير يوسف فرنسيس في كتابه الاستثنائى النادر “الملاك الفاسد”.. وهو فاسد لأنه ملاك عاش وسط وحوش كاسرة تأكل بعضها في صراع محموم على المجد والثروة بصورة مهينة، ولم تقبل نفسه أن يتحوَّل من فنان إلى بائع فن للأثرياء وسماسرة اللوحات، واحتفظ بكبرياء ورفض عروض كثيرة حتى جاع واحتمل الجوع لكنه لم يحتمل بكاء حبيبته.
ففي سنة 1906م، سافر مودلياني، المولود في إيطإليا إلى باريس، وهو في الثانية والعشرين من عمره، ليعيش في حي مونمارتر مع المتعبّدين للجمال، وهناك تعرَّف إلى الفنان الإسباني “بيكاسو” والبولندي “كيسلينج” والإيطالي “أوتريللو” والفرنسي “فلامينك”، وكانت فترة ذهبية في تاريخ الفن، لكن مودلياني كان يستشعر في نفسه الميل إلى التعبير المنفرد، لا يريد الانتماء إلى مدارس أو اتجاهات فنية، يريد شيئًا لا يعرفه، فاندفع بشعوره إلى الألوان الصارخة، والخطوط غير المتقطعة التي تستمر في انحناءات منغمة وناعمة وتسمو بالشخصية الأنثوية في تكامل رهيب بين المتعة والسحر والجاذبية، لكن هذه الأعمال لم تجد سوقًا بين سماسرة الفن، ورفض مودلياني أن يرسم حسب مزاج الأثرياء وتمسَّك بطريقته في التعبير عن الإنسان وروحه الباقية في أبهى صورة من التوهج، فعرف الاكتئاب الطريق إلى قلبه المجهد وجسده المريض، واكتفي بمراسلة صديقه “أوسكار جيليا”.
“ذهبت للعلاج في المستشفيات وجئت إلى باريس وأصبحت وحيدًا، لكننى سأهب نفسي -من قمة رأسي إلى أخمص قدميَّ- للفن وحده بعد أن تجمَّعت لديَّ من الأفكار بما يشبه زهور الروضة الساحرة”.
في سنة 1910م، خرج موديلياني من عزلته ليشترك لأول مرة في معرض “صالون المستقلّين” بلوحة عازفة الفيولنسيل، التي كانت نقطة البداية في فنه، وبدأ الناس يشعرون شعوره بموسيقية الخطوط واستعمال مشتقات الألوان الحمراء كألسنة النار شديدة الاشتعال يتردد صداها على أرضية زرقاء بلون السماء الصافية.
وفي سنة 1914م، بدأ موديلياني مرحلة النضوج بعد أن التقى الشاعرة الإنجليزية “بياتريس هاستنج”، في باريس، وصوَّرها على عشرات اللوحات وتحرَّر كثيرًا في رؤيته الجمال، وكانت بياتريس تساعده على كل ذلك، ليس لجمال عينيها الزرقاوين، بل لأنها كاتبة كانت تراه خالدًا ويستحق حبها، لكن مودلياني، الذي عاش قبلها تجارب عديدة بحثًا عن مخرج من العزلة وهروبًا من الكحول بدأ يشعر برغبة في التخلص منها ومن حياته كلها، وانتابته تلك الحالات السوداوية حتى التقى الفتاة الصغيرة (جين) ليبدأ قصة أكثر درامية من مرضه المبكر ومن عزلته الاختيارية ومن لهيب النار الذي كان يأكل روحه بحثًا عن ألوان جديدة، وقد كان اللون الأحمر -كما يقول الناقد الكبير محمد صدقي الخباخنجي- هو حلقة الاتصال بين دوافع نفسه وما يصوره من أشخاص، وعندما أراد أن يتحقق من هذا اللون الأحمر ترك مَرْسمه ليصهر نفسه في بوتقة الحياة ويصطلي بنارها التي وجد في أبراج درجاتها المتنوعة سُلّمًا للحن فنِّه الحزين، فعاش على الحريق.. حريق كل شيء، حتى أحرق نفسه في الخطيئة، ثم عاد فطهَّرها ليحرقها ثانيةً في نيران الفن والحب.. صوَّر كل الوجوه حمراء، تُطلُّ من عيونها أرواح محمومة، وعندما استنفد كل ما في طاقته المشتعلة، صعِدت روحه وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وعاشت باريس في حزن، ليس من مفاجأة الرحيل المبكر، ولكن لشعور كثير من رفقاء الفن أن الفتى الإيطالى الوديع كان يستحق مكانة أكبر بكثير حتى من بيكاسو نفسه.
وكتب صديقه العجوز المصوِّر المعروف فلامينك يوم وفاته يقول: “عرفتُه وهو يعاني ألم الجوع، ورأيته غنيًّا بفرنكات قليلة، ولكني لم أرهُ قط يتخلَّى عن عظمته أو كرمه أو إنسانيته، وكانت تكفيه كأس واحدة لتُنشيه وتُفقده وعيه”.
قصة الحب الخالدة فى حياة الفتى الإيطالى الصغير
لماذا تزوج سراً؟!
عاش مودلياني قصة حب كبرى مع فتاة تنتمي لعائلة (آل الهيبترن) فاحشة الثراء، وبعد عدة لقاءات بينهما شعر مودلياني بأن قصته مع الكاتبة بياتريس هاستينج قد انتهت، فقد راح يبحث عنها في كل مكان منذ رآها أول مرة في أحد استوديوهات الرسم، وابتسمت (جين) لفتاها الذي اختارها وتلاقت عيونهما حتى غرقا معًا في الحب ونسي مودلياني بياتريس التي كانت تسيطر على روحه ورسمها عشرات المرات ليبدأ دراما جديدة ستكون الأخيرة في حياته.
حاول مودلياني التقرب إلى والد (جين)، لكنه كان ينفر منه ويتعامل معه بطريقة مهينة فيها تحقير لشأنه ومكانته الفنية، وفشلت (جين) الصغيرة في إقناع العائلة بفتاها الفنان الفقير، فقررت الزواج منه في السر، ورغم أن جميع الأصدقاء والمعارف حاولوا الاحتفاظ بسرية زواج العاشقين، فإن الخبر تسلل إلى بيت (آل الهيبترن) وكان من الصعب على (جين) وقد أصبحت حاملًا في الشهر الخامس، أن تُخفي الأعراض التي تدركها الأمهات تمامًا!
والحقيقة أن أمها كانت قد شكّت، منذ وقت طويل، ومن تأخرها المتكرر خارج المنزل، ما يوحي بصدق الهمسات التي سمعتها من أن ابنتها قد تزوّجت في السر.
وعندما واجهتها أخيرًا بكت (جين) واعترفت بكل شيء!
وأصبحت المشكلة الآن هي إخفاء الأمر عن الوالد بأي وسيلة.. فصِحَّته كانت قد تدهورت في الأشهر الأخيرة تدهورًا خطيرًا، وقد صار عصبي المزاج، يثور لأتفه الأمور.
يقول يوسف فرنسيس في سرده الرائع للقصة إن الأم وجدت نفسها متعاطفة مع ابنتها، محاولةً إخفاء حمل (جين) الذي بدأ يتخذ شكلًا واضح المعالم. وقد فكرت بادئ الأمر أن تعترف لزوجها بزواج ابنتها الشرعي، ولكنها كانت تدرك أنها مقامرة قد تودي بحياته، فهو من هؤلاء الرجال الذين يعيشون سجناء لمثالياتهم، فلا يتسامحون مع أخطاء الآخرىن. ولم يكن في وسعه، بأي حال، أن يرضى عن هذا الزواج!
كان عليها أن تتصرف بسرعة.. وعندما ذكرت لها (جين) أن (مودلياني) قد حدثها عن استعداد عائلة إيطالية خارج باريس لاستضافتها في شهر الولادة، وجدت في هذه الفكرة الحل الوحيد، وأقنعت زوجها بأن (جين) في حاجة إلى السفر بعض الوقت، لتسترد صحتها الضائعة، ووافق الرجل وهو واثق بكلام زوجته.
ولدت (جين) ابنة جميلة، تحمل هذا المزيج العجيب من الجمال الإيطالي والفرنسي. ورفعها (مودلياني) بين ذراعيه في اعتزاز، وهو يهمس:
إنها (جين) الصغيرة!
وابتسمت الصديقة الإيطالية وهي تأخذها من بين ذراعيه:
اتركها لي.. سأربيها لكما، من اليوم ستصبح (جين) الصغيرة ابنتي.
ولم يكن أمام (مودلياني) حل آخر، فهو لن يستطيع أن يربي الطفلة، وزوجته لن تستطيع أن تعود إلى منزل أسرتها وبين ذراعيها ابنتها الوليدة.
وكأن الحياة قد سعدت لمقدم (جين) الصغيرة، فأرادت أن تعوض (مودلياني) بعض ما فاته، فابتسمت له ابتسامة واسعة، إذ انتعشت موارده، وبدأ الناس الاهتمام بعمله، والإقبال على لوحاته.
واستمد (مودلياني) من هذا التشجيع دفعة جديدة، فانطلق انطلاقة واسعة بفنه، فأنجز سلسلة من اللوحات المتتالية تبلور فيها أسلوبه، ونضج بها اتجاهه الفني، متخذًا طريقًا واضح المعالم، تكاملت فيه القيم الفنية، والإدراك الجمالي، وامتزج بهذا القسط الوافر من الشاعرية التي تزخر بها نفس الفنان.
ولكن الحياة كما تعطي، تسترد أحيانًا ما أعطت! وهي إذا كانت قد ابتسمت له بالأمس، فإنها اليوم تلطمه بقسوة..
إن المال القليل الذي وصل إليه من بيع لوحتين قد تسرَّب من يديه.
إن المال القليل الذي وصله من بيع لوحتين قد تسرب من يديه.
عندما صرخ : أنا وحيد يا حبيبتى !
بدأ مودلياني يذوق من جديد طعم الفقر ويشتد المرض عليه، ونوبات السعال أصبحت تتواصل لتحطم تماسكه، وتتركه خائر القوى، منهك البدن. وحاول (مودلياني) كما كان يحاول دائمًا أن يعاند المرض ويقاومه في إصرار، متجاهلًا الدماء التي بدأت تنزف من فمه وأنفه كل مساء.
وفي الساعات التي كانت (جين) بجواره، كان يستمد من وجودها القوة التي تعينه على التحمل، بل إنه -مراعاة لمشاعرها- يحاول أن يبدو أمامها ضاحكًا متفائلًا، ولكن (جين) كانت تتركه عندما يأتي المساء لتعود إلى بيت العائلة، فيقبّلها قُبلة الوداع، ويعود وحيدًا وقد تملكه اليأس وعصفت به الأحزان.
وليلة بعد أخرى، ضاق (مودليان) بالأمر! إنه في حاجة إلى (جين)، يريد أن تشاركه لياليه القاسية. وفي إحدى ثورات الغضب، مدفوعًا بالرغبة في استبقائها، أوصد (مودلياني) باب مرسمه، لاعنًا أسرتها، طالبًا منها البقاء بجواره!
وعندما اقتربت منه (جين) ولمست جبينه المحموم، أدركت أن المرض قد اشتد عليه، وراعها الشحوب الشديد على وجهه، وراعها أكثر السعال المتصل الذي يهز بدنه في قسوة وعنف.
لقد تأكدت (جين) أن المرض قد نال من صدره الضعيف، وقادت حبيبها إلى فراشه، ومسحت العرق البارد المتصبب على جبينه، ومضى بها الليل وهي راكعة بالقرب منه، تمسح على شعره بحنان.
لقد تأكدت (جين) أن المرض قد نال من صدره الضعيف, وقادت حبيبها إلي فراشه, ومسحت العرق البارد المتصبب علي جبينه. ومضي بها الليل و هي راكعة بالقرب منه, تمسح علي شعره بحنان.
ليلة البكاء على صدر جين
وأخيرًا نام (مودلياني) وهو يهذي باسم (جين) ويتحدث عن ابنته الصغيرة، ولوحته الناقصة. وعندما هدأت أنفاسه لتنتظم في نوم عميق، فكرت ساعتها أن تفتح الباب، وتعود إلى أسرتها، ولكن قلبها لم يطاوعها على مفارقته وهو مريض!
كان الإرهاق قد نال منها، فأسندت رأسها إلى الوسادة بجواره ونامت، وقد طوقت عنقه بذراعيها. ومن النافذة الصغيرة، امتدت خيوط الصباح لتضيء وجه زوجين جمعتهما التعاسة، وربط قلبيهما الحب.
إيطاليا… إيطاليا العزيزة
لم يحمل النهار معه سوى مزيد من المصاعب والأحزان، وشعرت (جين) باليأس والضياع وهي ترى حبيبها وهو يتلوّى بالألم على الفراش، والعرق يتصبب من جبينه بغزارة.
وبرغم إعيائه الشديد، ابتسم (مودلياني) في ضعف وهو يرى (جين) بالقرب منه، واللهفة تطل من عينيها الجميلتين، ورفع يدها الصغيرة إلى شفتيه، وقبَّلها في حنان.
وما لبث أن انتابته نوبة جديدة من السعال، فنهض من فراشه يترنح باحثًا عن زجاجة الدواء، والتقطها بأصابع ترتعش، وفتح سدّادتها في لهفة، ولكن الزجاجة كانت خاوية وفتح الدرج الصغير الذي يحتفظ فيه بنقوده، وكان الدرج أيضًا خاويًا!
كانت (جين) تراقبه في حزن وعيناها معلّقتان به.. تتبعان تحركاته في لهفة، وقد أدركت أن المأساة قد وصلت إلى ذروتها!
وألقى (مودلياني) بنفسه على السرير في يأس، وحاولت (جين) أن تقاوم دموعها وقد تمزَّق قلبها.. لم تكن تفكر في هذه اللحظة إلا في حبيبها المسجَّى على الفراش، يصارع المرض في يأس دون دواء.. بل إنه في حاجة إلى الطعام الذي حُرم منه أيامًا متتالية، لأنه لم يجد كسرة الخبز. كان لا بد لها من إنقاذه وبسرعة قبل فوات الأوان.. ولا بد من نقود!
وفكرت في أصدقائه وبحثت عمن يقرضها بعض المال، ولكن عليها أن تخرج وتترك (مودلياني) وحده..
وخافت أن تتركه، بل خافت أن يثور عندما يراها تغادره، فتصرعه إحدى نوبات غضبه. وأخذت تذهب جيئة وذهابًا في الحجرة طائرة اللب، مشتتة النفس، وهي تتأوه كلما سمعت حبيبها يتألم!
وعندما أتى المساء كانت مقاومتها قد انهارت تمامًا، ويئست وعصفت برأسها الأفكار السوداء.. لم يكن في وسعها أن تراقب حبيبها وهو يموت رويدًا رويدًا بين ذراعيها دون أن تحاول إنقاذه.
وعندما أتي المساء كانت مقاومتها قد انهارت تمامًا, وتملكها اليأس وعصفت برأسها الأفكار السوداء. لم يكن في وسعها أن تراقب حبيبها وهو يموت رويدًا رويدًا بين ذراعيها, بدون أن تحاول إنقاذه.
صفعات الأب ترسم اللوحة الأخيرة
استجمعت (جين) شجاعتها، وبهدوء تام رفعت رأسه قليلًا عن صدرها، وهرعت صوب الباب، وانطلقت خارجة، وصوتُ (مودلياني) الضعيف يلاحقها في استعطاف:
-(جين).. عودي يا حبيبتي!
ولكنها تدرك أنها لو ضعفت لصرخاته، وعادت أدراجها دون الدواء، لكتبت بنفسها الصفحة الأخيرة في حياة حبيبها!
انطلقت تجري في الطرقات، وشعرها الطويل يتراقص حول رأسها في جنون.
ووصلت إلى بيت أقرب الأصدقاء (ذبورفسكي) منهكة القوى، وصدرها يعلو ويهبط، ومدت يدًا مرتعشة تطرق الباب، وفتحت لها امرأة عجوز.
وسألتها (جين) في لهفة:
هل السيد (ذبورفسكي) بالداخل؟
ـ لا .. لقد سافر هذا الصباح إلى نيس..
دارت الأرض بـ(جين) واسودَّت الدنيا في عينيها، ومدَّت يدها إلى الباب مسندة نفسها إليه وقد خُيّل لها أنها على وشك السقوط.. وظلت المرأة تنظر إليها لحظات في دهشة قبل أن تقول:
-هل حدث شيء؟
ولم تُجب (جين).. لأنها لم تسمع السؤال.. واستدارت في بطء وقد أدركت أن القدر يعاندها..!
لم يعد أمهاما سوى عائلتها!
وفي يأسها أسرعت (جين) إلى منزل العائلة! كانت قد نسيت أنها قد أمضت الليلة خارج المنزل!
لقد أنستها مأساتها الخاصة المأساة التي سبَّبتها للأسرة بغيابها!
واستقبلها والدها بصفعة حادة! لقد أرادت زوجته أن تحمي (جين)، وتجد عذرًا لمبيتها خارج المنزل، فلم تجد خيرًا من ذكر الحقيقة! فتوالت صفعاته.. ولم ترفع (جين) يديها لتحمي وجهها، وإنما انكفأت على الأرض وهي تئن كالطائر الذبيح! كانت أضعف من أن تقاوم، وأضعف من أن تدافع عن نفسها!
وسألها والدها، وكلماته أشد قسوة من صفعاته:
-ما الذي أتي بك اليوم أيتُها العاهرة؟ هل مللت حبيبك؟ أم تراه هو الذي رمى بك إلى الشارع؟
وغالبت (جين) دموعها، وابتلعت إهانته، وهي تتذكر حبيبها المريض وفي صوت ضارع سألته مستعطفة:
-عفوك يا أبي.. لقد أتيت الليلة لأنه مريض، وفي حاجة إلى الدواء.. وأرجوك أن تقرضني بضعة فرنكات..
قاطعها صوت والدها الحاد:
ليس عندي ما أعطيك إيَّاه.. إن هذا الكلب يستحق أن يموت! وتساقطت كلماته كالسم في أذنيها، فزحفت إلى الخارج.. وعندما حاولت أمها أن تستبقيها، اندفع زوجها في ثورته الغاضبة يمنعها.
خرجت (جين) تجرُّ نفسها جرًّا، وعندما وصلت إلى مرسم (مودلياني) كان الإعياء قد بلغ بها القمة.. وألقت بصرها على الفراش فألفته خاليًا! وتنبَّهت أن باب الحجرة لم يكن موصدًا.
ودارت بها الحجرة، وسقطت على الأرض مغشيًا عليها.
ودارت بها الحجرة, ووقعت علي الأرض مغشيًا عليها.
دعونى أموت معه
في هذه اللحظات، كان (مودلياني) يترنح في الشوارع وفي يده بضع رسومات يدور بها على مقاهي الدرجة الأولى، يعرضها على الرواد في خجل ممزوج باليأس.. هامسًا بصوت ضعيف:
الصورة بفرنك.. الصورة بفرنك.. مَن يرغب في الشراء..؟! لم يكن ثملًا، وإنما كان يهذي بشكل يدعو إلى الرثاء!
لم يكن في هذه اللحظة الشاب الإيطالي الوسيم، وإنما كان إنسانًا نابت اللحية، زائغ النظرات، شاحب الوجه.
وكان يمر بين الموائد، مادًّا رسومه بيد، مشيرًا إلى نفسه بالأخرى هامسًا في تلعثم:
-أنا (مودلياني).. وهذه رسومي، الواحدة بفرنك!
ولكن الرجال كانوا يتأملونه في سخرية، والنساء يبتعدون عنه في تأفف.
وارتفع صوت أحد الرجال، وقد بلغ به الاشمئزاز أقصاه:
ابتعد عنا أيها السكِّير! ألا ترى أنك تكاد تسقط علينا؟
وارتفع صوت المرأة التي ترافقه:
ألا يوجد إنسان يقذف به إلى الخارج؟
وامتدت أيدٍ غليظة تدفع بمودلياني إلى الشارع!
وتنهدت المرأة بارتياح وهي ترشف رشفة من كأسها، وقالت:
ألا توجد وسيلة أخرى للتسول؟
سقط مودلياني في الطريق، وقد نال منه الإعياء، وأغرقته الأمطار وبللت ثيابه، فزاد سعالُه.
ونهض في بطء، يتماسك في صعوبة متجهًا صوب مرسمه وكلمات المرأة تتردد في أذنه في إلحاح.
(ألا توجد وسيلة أخرى للتسول؟!) لقد أراد أن يعود ببعض المال ليوفر على (جين) البحث عن النقود، ولكنه فشل!
لا نهاية للأحزان!
لا نهاية لليأس!
لا نهاية للأسى!
لا أمل في شيء!
وزحف يصعد الدرجات إلى مرسمه.. وفتح الباب، ليسقط بجوار (جين) وهو يئن ويتوجع.
أفاقت (جين) لترى مودلياني مُلقى إلى جوارها، يرتجف بشدة، وشفتاه تهذيان باسمها.
لفت ذراعيه حول كتفيها، وحملته إلى فراشه، ونهضت لتوصد الباب، ثم ألقت بنفسها إلى جواره تطوّق عنقه، وتغرق وجهه الشاحب بدموعها وقبلاتها، وهي تهمس بين نشيجها:
لن تموت يا حبيبي.. قل لي إنك لن تموت!
وأحست بالبرودة تسري في جبينه الملتهب، والعرق الغزير يملأ وجهه، فأطلقت صرخة رهيبة، ودفنت رأسها في صدره، وقد علا نشيجها، وأخذ جسدها النحيل يرتجف كغُصن ضعيف تلاحقه ريح قاسية!
أسرع أصدقاء مودلياني، وقد أقلقهم غيابه، يطرقون باب مرسمه، وما من مُجيب! فاقتحموا الباب، واقتلعوا (جين) من فوق صدره وهي تبكي وتصرخ فيهم:
دعوني أمُت معه!
وحملوه إلى المستشفى، ولا تزال أنفاسه تتردد في بطء.
حاولوا إنقاذه، ولكن الشمعة التي أضاءت هذه الحياة القصيرة كانت قد انتهت.
واستدار قبل أن يموت ليمسك بيد (جين) في حنان، ثم همس كأنما يستعد لرحلة طويلة إلى بلده:
إيطاليا.. إيطاليا الحبيبة…
وهدأت أنفاسه، وسقط رأسه على الوسادة، وعلى شفتيه تجمّدت ابتسامة باهتة!
وخرجت (جين) من المستشفى في صمت.. لا تبكي ولا تتكلم، كأنما حواسها كلها قد شُلت.
وفي خطوات ثابتة، اتجهت إلى بيت أسرتها.. لم تحدّث أحدًا.. وصعدت إلى حجرتها لتطل من النافذة.
كان الألم يعصر قلبها.. ألم أقوى من الحزن، وأقوى من الدموع!
لقد ربطت حياتها بمودلياني.. وها هو ذا قد ذهب..! فما معنى الحياة الآن؟
حتى أسرتها تنظر إليها في شماتة، غير مقدّرة مصيرها التعس!
ما جدوى الحياة دون مودلياني، زوجها الحبيب؟
وأغمضت عينيها، واتجهت إلى النافذة تهمس، وهي تلقي بنفسها مفتوحة الذراعين:
ها أنا ذا يا حبيبي!
وبينما يسرع الناس إلى حطام الجسد النحيل، ويغطون الوجه الجميل الذي غرق في الدماء، كانت روحها النبيلة قد لحقت بحبيبها في لقاء لا فراق بعده..
بعد ثلاث سنوات، ضمَّ قبرٌ واحد، أميديو مودلياني وزوجته الحبيبة، (جين) هيبترن.
وفي اليوم الخامس والعشرين من يناير كل عام، تذهب ابنتهما الوحيدة (جين) لتنثر الورود على القبر، وتتلو صلاتها الصامتة.
وفي اليوم الخامس والعشرين من يناير في كل عام, تذهب ابنتهما الوحيدة (جين) لتنثر الورود علي القبر, وتتلو صلاتها الصامتة.
مؤلفها تشكيلى كبير تعرض للظلم
أول رواية مصرية عن فتيات مودليانى
و”هاربات مودلياني”، هو اسم رواية لطيفة ومختلفة جدًّا، رغم ما بها مشكلات سردية، فإن صاحبها الفنان التشكيلي أحمد الجناينى فتح من خلالها عالمًا مليئًا بالألوان والرحابة وملاحقة الأحلام البعيدة الساكنة في عيون فتيات مودلياني.
الجنايني لم يكتب الرواية حبا في عالم مودلياني فقط، ولا رغبة في التحلق مع ألوانه الساحرة، لكنه كان يرى في هذا الفنان الإيطالي مخرجًا له من دائرة الظلم التي تعرض لها في مسيرته الفنية، إذ يذكر ضمن الأحداث همومه الشخصية على لسان البطل، ويحكي عن صراعه مع الحركة التشكيلية المصرية ويسرد وقائع بدأت من افتتاح المعرض العام في دورته رقم (24) بقصر عائشة فهمي عام 1995م، الذي وصفه بـ(تلك الصورة الهزلية التي كانت مثار جدل وشكلًا من أشكال الاستفزاز والفوضى التي لا تليق بحضارة وتاريخ شعب امتدت جذوره في رحم التاريخ)، إذ همَّش المعرض كبار الفنانين واستخف برموز الحركة التشكيلية، الأمر الذي دفعه إلى أن يقذف بنفسه في معترك الحدث، ليصدر باسم نقابة التشكيلين بيانه الصارخ وما تلاه من تبعات وردود شتى كان لها صدى كبير، لكن يقرر الرحيل بعد تلك الواقعة بحثًا عن فضاء جديد: (ها هو مودلياني.. يحب بجنون.. ويرسم بجنون.. ويبكي على صدر من يحب.. مودلياني يحيل كل المفردات والمعاني الصامتة إلى طيور تحلق، تفض بكارة المساحة بابتسامات اللون، وما بين نجاحاته وآلام التجربة وما تعرض له من سرقات مادية و فنية، ورغم كثير من المعاناة ما خمد توهج المثابرة، ظل طائر اللون يلهث وراء مجونه الخرافي للفن والإبداع (كانت الورقة والقلم ملاذه الأوحد في تلك الآونة وصراخه وأسئلته لا سبيل لها سوى تلك المساحة البيضاء كي تتشكَّل عليها جُمل وكلمات تمتصه وتُهدئ غضبه وخوفه).
فيتنقل البطل من الجزائر إلى برلين، يجوب المدن والقرى البعيدة بحثًا عن خلاص مودلياني، يطارد الألوان والأحلام كما تقول الكاتبة ماجدة سيدهم في تحليلها للرواية، إذ تتحول عاريات مودلياني إلى (هاربات).. يلتقي كثيرات ولا يجد لهن أثرًا في روحه حتى يعود إلى طين الأرض ويشم رائحة الألوان على شاطئ بحيرة صغيرة في قريته.. فيعاوده الحنين، يتنفس ملء رئتيه برودة هادئة على ضفاف دلتا النيل، ويقبض على الحلم: (أخاف عليك من أنثى تنام بين اللون والفرشاة وتتنفس الشعر والوطن، قالت بكل ثقة: سوف أهدهدها حتى يشكّلك اللون وترسمك القصائد ويتنفسك الوطن.
قالت في إبداع أنثى: عند الحب لا نفهم الندم، وتطرح المواجهة نفسها، أنه ما هدأت نوبات الإبداع، بل اشتعل دفق الشغف إلى الأعمق).
ورغم أن الرواية التي كتبها الفنان على لسان البطل تفتقر إلى كثير من عناصر السرد الروائي فإنها احتفظت بفطرة ريشة فنان قرر أن يكتب تجربة مختلفة عن عالم الروائيين واختار موضوعًا يتناسب مع لحظة الكتابة التي هرب فيها من صراعات المعركة التشكيلية المصرية متوحدًا مع فنه وألوان مودلياني.
راغب عياد : مودليانى كان يتحدث إلى نفرتيتى !
من أوائل الفنانين الذين تعرفت إلى أعمالهم وحفظت لون فرشاتهم كان الفنان الكبير راغب عياد الذى ظل مدهشا حتى بعد رحيله فقد عثرت على تلك اللوحة البديعة التى تنقل فتيات مودليانى بسحر عيونهن وصرختهن المميزة المتفردة ، وكان عياد المولود فى 1892 ضمن أول دفعة التحقت بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1908 ، لكن مرحلة الانطلاق الحقيقية فى حياته الفنية بدأت فى روما حيث سافر مبكراً إلى إيطاليا (1925) فى بعثة استمرت خمس سنوات قال عنها إنها فترة التحرر من
الأساتذة الفرنسيين الذين تعلمنا على إيديهم فى مدرسة الفنون ، وعندما عاد راغب عياد عام 1937 عمل أستاذا بكلية الفنون الجميلة وراح يبشر بأعمال مودليانى الذى كان أول فنان يتأثر بالفن الفرعونى ويأخذ عن وجوه الفيوم بعض اللمحات التى جعلته متفردا ، وفى حوار معه لمجلة المصور فى 2 نوفمبر 1979 قال راغب عياد إن مودليانى هو الأقرب إلى الفن المصرى حتى فى طباعه كفنان قرر أن يعيش للفن ولا يبحث عن الثروة كما فعل غيره عشرات من فنانين كبار لكنهم انحدروا إلى إرضاء أذواق الطبقات الرأسمالية ، إلا هذا الإيطالى الأقرب إلى الحضارة المصرية القديمة ، مودليانى ـ يقول ـ راغب عياد ـ كان يقف أمام نفرتيتى ويتحدث إليها ، مودليانى يحمل روحا مصرية تتجلى فى لوحاته مثلما تتجلى الروعة من الأيقونات القديمة ومن وجوه الفيوم تحديدا .. وكان من الطبيعى أن يسكن روحى بحياته وفنه وصنعت تلك اللوحة تخليدا لهذا الحب المصرى ـ الإيطالى .
روح مودلياني في أعمال راغب عياد