عندما نترك الحبيبات القديمات ونبتعد .. هل نستريح ؟! وإن تخلصنا من العلاقات القديمة وقطعنا جذورنا تماما .. هل نصبح أحرارا نتحرك بخفة ونعيش في سعادة ؟!
وقع بطل رواية (كائن لا تحتمل خفته) في هذه المشكلة الفلسفية منذ السطر الأول في رائعة ميلان كونديرا. فها هو الطبيب الماهر السيد (توماس) يقف في مواجهة الحائط يستعيد جانبا من حياته، إذ انفصل عن زوجته بالطلاق ورفضتْ هي أن يرى ابنه بشكل منتظم أو غير منتظم!! فأصيب باضطراب وزهق وملل وقرر أن يتخلص من عبء وثقل (الأبوة) المفروضة عليه وهو لا يملك حيالها شيئا!! عائلته كلها اعترضت على قراره الغريب؛ لكنه لم يهتم وقرر أن يستكمل حياته خفيفا ووحيدا. حتى عشيقاته المتعددات أصبحن يعرفن أن هذا الرجل يعيدهن إلى بيوتهن آخر الليل؛ إذ لا يحتمل بقاء أى كائن بجواره. عشر سنوات وهو يحافظ على هذه الحياة، كلهن عابرات لا تتبقى منهن ذكرى واحدة، وليس لواحدة عليه أي حق، باستثناء (سابينا) التي تحترف التصوير والرسم وتتفق مع أفكاره تماما، فيما عدا ذلك فليس هناك متسع لتحمل أعباء أحد. لكنه وهو يقف متأملا كل ذلك الجانب من حياته كانت (تيريزا) في الخلف تنام على السرير، وتحطم القواعد والقوانين التي وضعها في التعامل مع النساء!! كانت قد حملت حقيبتها من ريف زيورخ وجاءت إليه طفلة تائهة وغريبة وها هي تبقى في بيته مريضة وعليه أن يسهر بجوارها!.
ماذا يفعل الآن في هذا الثقل الذي أعاده إلى الواقع ؟! ماذا فيها يجعله متعلقا بها باحثا عن العبء الذي تخفف منه طويلا؟! ماذا في (تيريزا) التي أصبحت لا تغفو إلا وهي قابضة على أصابعه؟! كان يروي من أجلها قصصا بصوت خافت ونبرة رتيبة حتى تغفو. بينما كانت أثناء نومها تشد بقوة على أصابعه، وعندما استيقظ أحس أنه يستنشق عطر سعادة مجهول.
المصادفة أوقعت تيريزا في طريقه كان قد ذهب إلى الريف لعلاج حالة خاصة بعد اعتذار طبيب آخر. أنهي مهمته وجلس في مقهي فقير ملحق بالفندق وناداها ليدفع الحساب. نعم كانت تيريزا على هذه الحال عندما التقاها، شابة صغيرة جدا تتغلغل بين السكارى وجسدها المحندق ينوء تحت ثقل الأكواب والكؤؤس التي تحملها فوق الصينية. سمعت توماس يناديها ذاك النداء الرائق من شخص لا يعرف تاريخ أمها المهين، ولايستخدم تعليقات السكارى الفاحشة. كان هناك كتاب مفتوح أمامه على الطاولة فاعتبرت ذلك علامة على وجود أخوة سرية تجمعها بهذا الغريب!! ودار حديث قصير عن الغرفة رقم (6) التي يقيم بها والتي سيضاف إليها الحساب؛ فقالت بسرعة بديهة: (وأنا أنتهي من العمل في السادسة أيضا). وكان موعد قطاره في السابعة؛ فأمضيا معا ساعة وافترقا. بعد عشرة أيام جاءت تزوره ومارسا الحب، وفي المساء أصابتها نوبة حمى وها هو جاثيا يتأمل ملامحها (لا تشبه أحداً يعرفه، وجهها يستدير تلقائيا نحو وجهه، كأنه يشم رائحة الحمى من شفتيها ويتنشقها كأنه يريد أن يمتلىء بحميم جسدها، وللحظة تصور أنها تحتضر، فأحسّ أنه لا يستطيع العيش بعد موتها بل سيتمدد قربها ويموت معها، وإذ هزت كيانه تلك الرؤية دفن وجهه في الوسادة.
تعاني تيريزا من الثقل النفسي الذي تحمله على ظهرها؛ فهي ليست مجرد نادلة وضيعة بين السكارى لكنها في أيام الآحاد تقوم بتنظيف البيت وملابس أشقائها من والدتها، وتحمل فوق كل ذلك ميراث فاضح عن أمها التي يعرف الجميع سؤ سلوكها وفحش حديثها (كان الاحتشام معدوما داخل المنزل) فأمها تتجول بملابسها الداخلية وأحيانا عارية تماما. أما زوج والدتها فلم يكن يتجول عاريا فقط؛ بل كثيرا ما حاول نهش جسدها على مرأي من أمها التي ترى في تيريزا كل ذنوب حياتها. فمن أجلها تحملت الشقاء، وهكذا كانت تراها تيريزا نموذجا للتضحية أيضا وتخضع لها خضوعا تاماً.
ماذا في تيريزا يجعل توماس يقرر الزواج منها والعيش معها ؟! في الليالي التي تقبض فيها على أصابعه؛ كان يسحب نفسه بحذر كي لا يوقظها. وكثيراً ما قال لنفسه : تيريزا طفل وُضع في سلة مطلية بالقطران ورُميت في النهر، هل في إمكان المرء أن يترك سلة داخلها طفل تنجرف بعيدا؟!.
ربما كانت الروح التي تتمتع بها ولا تعرف مكانها ومحيط وجودها في جسدها. لا يجيبك (كونديرا) لكنه يتأمل حياتها، فربما كان ثقل وجود أمها قد تسرب إلى روحها: (كانت تتأمل نفسها طويلا في المرآة، تركز جهودها لتنزع عنها بقايا أمها. فيصير الوجه صفحة بيضاء لا يتبقى عليها إلا ما يخصها هي، كانت الروح حينئذ تطفوعلى سطح الجسد).
(سابينا) هي نموذج الخفة الذي يواجه الثقل. تزوجت وأنجبت فتاة تشبهها تماما لكنها تشعر بثقل وجود زوجها (فرانز) في حياتها، ولا تخجل من السقوط في حب رجال غيره. أما فرانز الذي يعيش مع زوجة يكرهها ويشعر بقيودها حول معصمه فيشعر بثقل حياته، وحتى عندما يتخلص من علاقته بها يظل سابحاً في عالمها!.
هكذا يتنقل كونديرا بين ثنائياته، طارحاً الأسئلة حول توماس/تيريزا وسابينا /فرانز. ومن هؤلاء الأربعة تتولد فكرة الخفة والثقل التي ابتكرها كونديرا في قالب روائى فلسفي يفتح نوافذ التأمل ويشارك القارىء البحث عن خلفيات نفسية لتصرفات الأبطال. فعلها في رواية “البطء” أيضا فليس هناك حدث ضخم بل حوار عادي بين زوجين يستمتعان بالبطء في تحركاتهما مقارنة بالسرعة التي يعيشها الناس حولهما. يستدعي شخصيات من القرن الفائت، وقصص حب في الوقت الراهن، ثم يجمع كل هؤلاء في ختام الرواية كي نرى جماليات (البطء). لكن (كائن لا تحتمل خفته) التي صدرت بترجمة مدهشة للسيدة (مارى طوق) كانت الأشهر والأكثر تفسيراً لعالم ميلان كونديرا الذي وصل إلينا منتصف التسعينات؛ فأصبح جزءً من ثقافة ووجدان جيلنا بجوار ماركيز وكواباتا. ولا يتسع المقام للحديث عن حياته التي تعرض خلالها للكثير من تضييق الشيوعيين الروس الذين احتلوا بلاده وأقالوه من وظيفته وهرسوا الكثير من أحلامه تحت عجلات الدبابات؛ فتحمل الثقل الكبير كي يكتب عن الخفة وجمالها: (إن أكثر الأحمال ثقلا يسحقنا، يلوينا تحت وطأته ويشدنا نحو الأرض، ولكن لو ألقينا مثلا نظرة على شعر الحب خلال العصور كلها لرأينا أن المرأة تتوق أن تتلقى حمل جسد الرجل. إذًا، فالحمل الأكثر ثقلا هو في الوقت ذاته صورة للاكتمال الحيوي في ذروته).
كائن لا تحتمل خفته – ميلان كونديرا ترجمة ماري طوق