السفير جمال الدين أبو العيون مع العائلة
(..تم تبليغنا بأن تحية كاريوكا تتزعم وفد الشباب المصرى فى بوخارست وكان لابد من الحصول على معلومات كافية ، فتنكرت بارتداء أزيائهم واندمجت وسط الشباب وعرفت الحقيقة كاملة وأرسلت بها أول تقرير دبلوماسى ، كتبت ما عرفت وكان سببا فى نقلى إلى الإدارة العامة كنوع من التقدير.. ).
هكذا تحدث السفير جمال الدين أبو العيون صاحب التاريخ العائلى والدبلوماسى العريق رحمه الله ، فى حوار أجرته معه سميرة شفيق لمجلة آخر ساعة (7 ديسمبر 1979 ).
أما الحقيقة الكاملة التى عرفها سيادة السفير وكتب بها تقريره الأول فهى أن الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا ليست شيوعية ولا تنتمى لتنظيم ماركسى، وأنها كانت حمامة السلام بين مجموعة من اليساريين وأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين على ظهر المركب التى حملت الشباب إلى بوخارست للمشاركة فى مؤتمر الشباب العالمى الثالث الذى أقيم فى العاصمة الرومانية (اغسطس 1953) ، وأنها ـ أى تحية ـ كما قال السفير فى حواره ـ أقامت حفلا للجميع على نفقتها الخاصة وهتفت وسط الجموع ( تحيا مصر ) .
أما الواقعة وتفاصيلها فلم يذكر منها سيادة السفير فى هذا الحوار سوى أنها حدثت عام 1953 وفى بداية عمله بالسلك الدبلوماسى كشاب مبتدئ ضمن البعثة الدبلوماسية المصرية فى بوخارست عاصمة رومانيا الاشتراكية ، فقد كان السفيرـ وقت إجراء الحوار ـ يستعد للسفر الى كولومبو عاصمة سيرى لانكا لؤلؤة المحيط الهندى وجزيرة الشاى التى كانت منفى عرابى لتسلم مهام عمله بصحبة العائلة التى تجمعت فى دفء ومحبة عكسته عدسة الأستاذ فاروق عبد الحميد ( الزوجة السيدة أمينة عبد الحليم ،والابنة داليا والابن خالد) ،وانشغلت الأستاذة سميرة شفيق التى أجرت الحوار بتفاصيل المهمة الجديدة وبتأثير الرحلة الجديدة على أفراد العائلة ، وتركت هذا الخيط المهم الذى صنع تغييرا كبيرا فى حياة هذا الرجل النبيل وفى حياة تحية كاريوكا ، فقد كان الدور الذى قام به طوق نجاة للفنانة المتمردة التى حاصرتها مخابرات عبد الناصر ولاحقتها بالشكوك والريبة فى كل تصرفاتها ، ولولا التقرير الذى وصفته تحية نفسها فيما بعد بالرائع ، لظلت تحت هذا الحصار وربما دخلت المعتقل مرات بخلاف المرة التى قضت خلالها مائة يوم!، فالمعلومات الثابتة لدى الأجهزة آنذاك تقول إنها عضو فى حدتو ،ومجرد مشاركتها فى السفينة المتوجهة إلى بوخارست فى هذا التوقيت ( 1953 ) وضمن مؤتمر الشباب العالمى الذى جاء فى الذكرى الأولى لاغتيال خميس والبقرى وعلى خلفية إضراب عمال مصنع الغزل والنسيج بكفر الدوار ..ومع القلاقل التى تعيشها ثورة يوليو تؤكد جميعا انها عضو ناشط فى تنظيم شيوعى سرى ، والوقائع تشهد بأن الفنانة الاستثنائية تتصرف بتلقائية وفطرة حتى وإن كانت قريبة من دوائر ماركسية إلا أنها مصرية فقط، ولو كتبت تحية هذا الكلام على ملابسها وحفرته على جلدها فلن يصدقها رجال ناصر آنذاك ،لكن السفير الشاب فعلها ونجح فى نقل تفاصيل هذا الواقع البعيد عن خيال أجهزة الزعيم الخالد ، والصورة التى ظهرت عليها تحية وهى تهتف باسم مصر وتفض الاشتباكات بين الماركسيين وجماعة الإخوان المسلمين من المشاركين ضمن الوفود ، كل ذلك رفع أعباء ثقيلة عن كاهل تحية التى عاشت حياة داخل الحياة كما سنرى
المهم أن السفير جمال الدين المثقف الذى قال إنه دخل المجال الدبلوماسى بناء على رغبة والده ، والذى كان يتمنى دراسة الآثار المصرية ،عاد وكتب تفاصيل القصة فى مجلة “الدبلوماسى” سبتمبر 2004 ، وقال إن رئيس البعثة الدبلوماسية استدعاه غاضبا بعد أن تلقى برقية من القاهرة تقول أن الراقصة تحية كاريوكا تم انتخابها زعيمةً للوفود الشبابية المصرية المشاركة فى المهرجان ( يقصد مهرجان الشباب العالمى الثالث الذى أقيم فى العاصمة الرومانية (اغسطس 1953) ،وكان السؤال : ماذا تفعل تحية وسط هؤلاء اليساريين والإخوان ؟ وكيف أصبحت زعيمة للوفود ،ولماذا يرفض هؤلاء الشباب الاقتراب من مقر السفارة المصرية فى رومانيا؟!، وابتكر الدبوماسى الشاب طريقته التنكرية وعرف أن الشباب المصرى يبتعد عن محيط السفارة فى رومانيا خوفا من وجود اسماءهم على قائمة الترقب ، كما عرف أن الراقصة زعيمة كل هؤلاء بالمحبة والجدعنة والأصول التى لقنتهم دروسها ورفضت الهجوم على مصررغم اختلافها مع عبد الناصر، ونجح الدبلوماسى الشاب فى مهمته واستحق الثقة التى جعلته واحداً من أشهر سفراء مصر ، وبعد اربعة شهور فقط ،وتحديداً فى الخامس من نوفمبر سنة 1953،سيتم اعتقال تحية كاريوكا(!!) ، وسيكون لتقرير السفير جمال أبو العيون دور كبير فى الإفراج عنها بعد مائة يوم قضتها فى المعتقل .