قد يبدو العنوان طويلًا لكنه يختصر القصة الطويلة التي بدأت عام 1952م، عندما وضع المعماري المصري الكبير الدكتور سيد كريم تخطيط المدينة المنورة، ثم وضع بعد ذلك تخطيطًا شاملًا يجمع بين مكة والمدينة المنورة.
كان الدكتور سيد كريم في ذلك الوقت صاحب رصيد ضخم، باعتباره أبرز مهندس معماري رغم صغر سنه -ولد بالمنوفية في 16 فبراير 1911م- إذ كان قد صمَّم مبنى “أخبار اليوم” عام 1948م ومبنى نقابة الصحفيين قبلها بعامين، وكانت المملكة العربية السعودية قد استقبلت المعماري الكبير قبل مشروع التخطيط للمدينة المنورة ومكة بعام واحد حين صمَّم فندق “زهرة الشرق” في الرياض عام 1950م، وفي 1954م استقدمته المملكة من جديد لتصميم التوسعة الأولى للحرم، وهناك كان الرجل يفكر في عدد الزائرين وكيف يمكن للمملكة أن تستغني عن بترولها وتكتفي بهذا الدخل السنوي الذي يضمن اقتصادًا قويًّا للبلاد، خصوصًا بعد تصميم المدينتين والتخطيط لشوارعهما، بحيث تستوعب الأعداد القادمة في موسم الحج.
وبعد عودته إلى القاهرة، ظلَّ الدكتور سيد كريم يحلم بتحويل المزارات الدينية في مصر إلى رحلات حج مقدسة لها مواعيدها السنوية واحتفالاتها واستعداداتها بالتنسيق بين الوزرات المختلفة، وظل الحلم يرادوه حتى مطلع السبعينيات واستبشر خيرًا باختيار بدر الدين أبو غازي وزيرًا للثقافة، فتقدم إليه بمشروعه وتحمّس الوزير المعروف بوطنيته وإخلاصه للعمل الثقافي، لكن بدر الدين أبو غازي لم يستمر في الوزارة التى دخلها في نوفمبر عام 1970 وتركها في مايو عام 1971! وجاء بعده إسماعيل غانم، ولم تستمر وزارته أكثر من أربعة أشهر (14 مايو 1971ـ19 سبتمبر 1971)! وتاه المشروع في أروقة وزارة الثقافة، كما تاه قبلها في أروقة متعددة، فقرر الرجل نشر جزء من مقترحه الكبير في مجلة الهلال، واستكمل الفكرة في كتابَيه (لغز الحضارة، وأخناتون)، وقال إنه أوصى تلاميذه بمواصلة السعي وراء الفكرة حتى تتحقق.
ورغم قيمة الدكتور سيد كريم، وعلاقاته الواسعة، ورغم إخلاصه في كتابة وإعداد “خطة الحج المصرية” بدقة الباحث والمؤرخ والمعماري، فإن أحدًا لم يستمع إليه!
ورغم أنني لست من تلاميذ المعماري المصري الكبير، وإنما من قرائه الغلابة، فإنني أحمل اليوم على ذراعي وكتفي وظهري وصية الرجل، ليس تقديرًا له فقط، وليس تقديرًا واحترامًا للجهد المبذول من رجل في قامته وقيمته، ولكن لأن الظرف مناسب للغاية في تلك الأيام، والعجائب والغرائب التي يمر بها الكوكب اقتصاد البلاد هو سلاحها، ولدينا الأسلحة لكننا نتحرج ونخشى هجوم الأصوليين والإرهابيين، وثروتنا التي تضمن دخلًا سنويًّا يُقدَّر بالمليارات عظيمة، لكننا لا نعرف مفاتيحها!
ولو عاش الدكتور سيد (رحل عن عالمنا في 16 نوفمبر 2005) وشهد ما حدث في المملكة خلال السنوات الست الماضية لسارع إلى رئاسة الجمهورية بمشروعه دون استئذان.
لقد تحوَّلت المملكة العربية السعودية تحوُّلًا حضاريًّا عظيمًا وستظل أجيال تتعجب مما جرى في أرض الخوف، التي تحوَّلت إلى مدينة الترفيه والسلام والغناء والحب والألوان، فعلها الحاكم الشاب، وأُضيف إلى اقتصاد البلاد اقتصادٌ جديد، وزاد البحر بحرين، وتضاعفت الثروات التي كانت تدرها رحلات الحج والعمرة، إذ خرج السعوديون من بيوتهم سعداء ببلادهم الجديدة، فأنفقوا في السهرات والحفلات والمزادات، وضجَّت المملكة بالحيوية والحركة والتداول، وتعاظمت الفلوس بفضل من الله ونعمه، وبقي حالنا نحن كما هو، الرجل الذي بلغ الستين واعتمر أربع مرات وحج بيت الله مرتين ما زال يريد الحج مجددًا، والحاجّة التي اعتمرت لها ولوالدتها ولباقي العائلة تستعد لرحلة عمرة رمضانية، وفلوسنا تطير إلى هناك ونحن نتضوَّر جوعًا، ولدينا ما يمكننا أن نعتمد عليه… وبنفس المنطق في التغيير والتجديد في التفكير، فلماذا لا نستفيد من رحلات الحج والعمرة بالتعاون مع المملكة؟! لماذا لا ننظم رحلات سياحية لحجاج بيت الله لزيارة أولياء الله الصالحين في القاهرة وأسيوط وقنا وكل أقاليم مصر قبل التوجه إلى مكة، على أن تتضمن تأشيرة الحج هذا البند المهم للراغبين في ذلك؟ لماذا لا تعلن الدولة المصرية عن رحلات حج رسمية إلى أم الدنيا؟
كنتُ أقول لك لو قُدِّر للدكتور سيد كريم أن يرى هذا التغير الكبير لذهب إلى رئاسة الجمهورية بمشروعه، فما بالك لو كُتب له عمرٌ ليرى مهرجان الحب والاحتفال الكرنفالي الضخم، الذي أُقيم على شرف الشيخ ترك آل الشيخ في دار الأوبرا المصرية مساء الاثنين 19 فبراير 2024، لذهب بنفسه إلى الشيخ الشاب واستفرد به وعرض عليه الفكرة، فربما تحمَّس لها، وساعتها سوف يتحقق الحلم بعد مرور كل هذه السنين.
عمومًا.. وبعيدًا عن الأحلام والأمنيَّات والخيال، فقد رحل المعماري المصري الكبير، عليه رحمة الله ورضوانه، وبقيت مقترحاته ودراساته تبحث عمَّن يؤمن بها فقط، فهي كاملة الأوصاف وجاهزة للتنفيذ، فقد حدد فيها الدكتور سيد كريم كل رحلة حج وموعدها والجمهور العالمي المستهدف منها، وفي كل رحلة حج يصف الطريق الذي يمكن اعتماده جغرافيًّا وتاريخيًّا، بحيث يزور السائح -أو الحاج هذه المرة- المؤمن بعقيدة التوحيد الأخناتونية -مثلًا- كل الأماكن الخاصة بأخناتون في دورة محددة تمتد طوال شهر مارس، وتبدأ بزيارة الهرم الأكبر، إذ تبدأ طقوس الحج التقليدية، ثم الانتقال إلى الأقصر لزيارة معبد أخناتون في الكرنك.. وتنتهي بزيارة تل العمارنة، ومنها ينتقل الحجاج إلى القاهرة، ويمكن تنظيم الرحلة بحيث تستغرق أسبوعين.
ولأنني كما قلت لستُ من تلاميذ الدكتور سيد، ولا أمتلك ثروة تسمح لي بتفيذ خطة الحج إلى أخناتون و”اكسب منه دهب”، ولأننى غريب في هذا البلد، ولا أملك سوى كارنيه نقابة الصحفيين، فمن خلاله أناشد زملائي في المهنة ممَّن يتشرفون بعضوية مجلس الشيوخ، مع حفظ المقامات والألقاب (عماد الدين حسين، ومحمود مسلم، ومحمد شبانة، وإبراهيم أبو كيلة، ومحمود بدر) أن يقرؤوا تفاصيل مشروع الدكتور سيد كريم، فإن وجدوا فيه ما وجدتُ من بريق الأفكار وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع بما يحمل خيرًا لهذا البلد فتلك أمانة في أعناقهم، أما إن وجدوني أبالغ في الأمر وأقول كلامًا عبيطًا وغير معقول فليقرؤوا الفاتحة على روح الدكتور سيد، وهذا يكفي!