أنبياء الله فى روايات نجيب محفوظ مصطفي بيومي للنبى محمد، عليه الصلاة والسلام، مكانة سامية شامخة فى عالم نجيب محفوظ، وهى مكانة تتوافق مع منزلة الرسول الكريم فى الحياة المصرية، حيث يمثل القيمة العظمى والقدوة والنموذج والمثل الأعلى لملايين المسلمين، الذين يتمثلون بأحاديثه الشريفة ويحتذون بسيرته العطرة ويتعبدون بسنته المطهرة، وتمتلئ مفردات لغتهم اليومية بما يعكس مزيجاً نادراً من الحب والاحترام والتقديس. الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للسيد المسيح عليه السلام، فهو رمز إنسانى جليل، ورسول عظيم يحتفى به المصريون المسلمون احتفالهم بكل الأنبياء والرسل. للأنبياء والرسل الآخرين، من آدم إلى موسى، عليهم السلام، وجود ملموس مؤثر فى أدب نجيب محفوظ.. وغنى عن البيان أن «أولاد حارتنا» لا متسع لها فى دراستنا هذه، ذلك أنها تخلو من الإشارة المباشرة إلى أى من هؤلاء الأنبياء والرسل، والشخصيات «الروائية» التى يقدمها نجيب، مثل أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، هى مجرد شخصيات روائية مصنوعة، لا علاقة لها بالوجود التاريخى الحقيقى، وانعكاساته على الأحداث والشخوص. أبو البشر تنتشر الإشارة إلى آدم عليه السلام فى عالم نجيب، انتشارها فى اللغة اليومية، عبر صياغتين: الأولى تعبر عن المساواة المطلقة بين البشر، فجميعهم من «أبناء آدم وحواء»، والثانية للتعبير عن عموم الجنس البشرى من «بنى آدم». لكن آدم عليه السلام يحتل مكانة أخرى، إلى جوار هذا التواجد اللغوى الشائع، وتنبع هذه المكانة من محورين: المحور الأول هو التشكيك بأسانيد علمية فى أبوته للبشر، ورد الفعل العنيف الرافض لهذا التشكيك، أما المحور الثانى، فهو التوظيف الفنى لخروجه من الجنة بعد الخطيئة.
فى قصة «الرسالة»، مجموعة «الشيطان يعظ»، يتغير اسم «عليش الباجورى» إلى «سالم عبدالتواب» لأسباب تتعلق بالهروب من الثأر، ويتقدم الشخص القديم – الجديد للزواج، ليس فى دفاع عن أصله المجهول، إلا أن «أى» مخلوق، يتسلسل فى النهاية «من آدم وحواء»!. إن أبوة آدم للبشر تبدو «بديهة»، لا تستحق معاناة البحث والتفكير.. وعندما يقرر كمال عبدالجواد، فى «قصر الشوق»، الالتحاق بمدرسة «المعلمين العليا»، مبرراً اختياره الغريب بالبحث عن «أصل الحياة ومآلها»، يقول أبوه مستنكراً: «أمن أجل هذا تريد أن تضحى بمستقبلك؟ أصل الحياة ومآلها؟! أصل الحياة آدم، ومصيرنا إلى الجنة أو النار، أم جد جديد فى ذلك؟.. السؤال الأخير استنكارى وأقرب إلى التهويل والتعبير عن استحالة وجود جديد يستحق الدراسة لكن الدرب الذى سلكه كمال يقود إلى ما يظنه الأب مستحيلاً!.. نشر كمال مقالا عن «أصل الإنسان»، واطلع الأب عليه فلم يفهم شيئاً ولا يملك إلا أن يتساءل عن نظرية دارون التى يشرحها الابن فى مقاله الغامض: – ماذا تقول هذه النظرية؟، لقد لفتت نظرى عبارات غريبة تقول إن الإنسان سلالة حيوانية، أو شىء من هذا القبيل، أحق هذا؟. وسرعان ما يعلو صوت أحمد عبدالجواد، متسائلاً فى انزعاج يتوافق مع الصدمة التى تخالف عقيدته الراسخة: – وآدم أبو البشر الذى خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه النظرية العلمية؟! لا تشير نظرية دارون إلى آدم عليه السلام، ولا يملك كمال إلا الاعتراف بهذا التجاهل وهو يرد بصوت خافت: – دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن «سيدنا» آدم. يحرص كمال على استخدام كلمة «سيدنا» وكأنه يعلن إيمانه الذى تخلى عنه، لكن الأب يواصل حديثه الغاضب الساخط: – لقد كفر دارون ووقع فى حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قرداً أو أى حيوان آخر، فلم يكن آدم أبا للبشر، هذا هو الكفر بعينه، هذا هو الاجتراء الوقح على مقام الله وجلاله!! إنى أعرف أقباطا ويهوداً فى الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم، كل الأديان تؤمن بآدم، فمن أى ملة دارون هذا؟!.. لا يحق للعلم أن يتدخل فى شئون العقيدة عند أحمد عبدالجواد، ولذلك فإن «دحض النظرية» الكافرة سهل عنده وميسور، وهو ما يتجلى فى نصيحته لابنه، ومطالبته بالتصدى والكشف عن أخطاء دارون: – عندك حقيقة لا شك فيها، وهى أن الله خلق آدم من تراب، وأن آدم هو أبو البشر، هذا مذكور فى القرآن، فما عليك إلا أن تبين أوجه الخطأ وهو عليك هين، وإلا فما فائدة ثقافتك؟. وتتدخل الأم، أمنية، لتسهم بدورها فى «دحض» وتسفيه النظرية العلمية التى لا تعرف شيئاً عن تفاصيلها: – ما أيسر أن تبين خطأ من يعارض قول الرحمن، قل لهذا الإنجليزى الكافر إن الله يقول فى كتابة العزيز إن آدم هو أبو البشر. ما يغيب عن الأب والأم أن ابنهما يشارك دارون الكافر.. فى الإيمان بالنظرية المناقضة للعقيدة الدينية، ويغيب عنهما أيضاً أن التخلى عن الإيمان بأبوة آدم لم يكن سهلاً عند كمال، ولذلك فإنه يبقى مسيطراً عليه ووثيق الصلة والارتباط بذكريات لا تبرح عقله، لقد تحول الكفر بآدم إلى نوع جديد من الإيمان الذى يضرب به المثل، الإيمان بالغياب: «إذا سمعت غداً أن الأرض مسطحة أو أن أصل الإنسان هو آدم فلا تدهش ولا تنزعج»!. تحولت «الحقائق» القديمة إلى «خرافات»، لكن هذه الخرافات لا تستسلم بسهولة، وتسبب للكافر آلاماً مبرحة وأوجاعا لا تتبخر: «كل شىء تغير مدلوله ومعناه، الله.. آدم.. الحسين.. الحب.. عايدة نفسها». لقد تغير المدلول، وانقلبت الأوضاع، لكن «المغادرة» النهائية للعالم القديم لم تتحقق بعد، وفى المقابل، فإن الإيمان بآدم عليه السلام، والدفاع عن أبوته للبشر، عند أحمد عبدالجواد، لا يعنى أنه فوق السخرية!. يتهكم إبراهيم الفار من صديقه أحمد وكمال معاً، فى قوله عن الابن: – سيكبر يوماً فيخرج عن محيط أسرته، ويقتنع بأن البشر من آدم وحواء.. ويبادر أحمد عبدالجواد بالرد اللاذع المناسب: – أو أحضره معى يوماً إلى هنا ليقتنع بأن الإنسان أصله كلب!. إنهما يتبادلان الأدوار: الكافر بآدم موجوع الروح والضمير، والمؤمن به لا يرحمه من السخرية!. الخروج من الجنة بالخطيئة سقط آدم عليه السلام، وغادر الجنة هابطاً إلى الأرض، هناك آدمان إذن: آدم الأول قبل السقوط، وآدم الثانى بعد الطرد من الجنة. كان آدم وحيداً قبل السقوط والطرد، ولم تكن حواء قد خلقت بعد، وفى قصة «خيانة فى رسائل»، مجموعة «همس الجنون»، يتمثل مرزوق ذلك التاريخ الموغل فى القدم، ويرى نفسه فى «قنا» منفى المصريين المغضوب عليهم فى النصف الأول من القرن العشرين، كما كان آدم قبل حواء: «إنى أعيش فى قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يخلق الله أمنا حواء، لا يقع بصرى على وجه امرأة قط»!. وخلقت حواء لآدم. تتحول سعادتهما، قبل الخطيئة، إلى نموذج عند العشاق، ويتخيل إبراهيم بدران، فى «الحب تحت المطر»، وهو يمشى مع علية، أن سعادته معها مشابهة للسعادة القديمة: «تمشيا بلا هدف وإبراهيم يقول لنفسه: مثل آدم وحواء، مثل آدم وحواء قبل الخطيئة». وفى «الشحاذ»، تتكرر الصورة عند عمر الحمزاوى، الذى ينال إجازة لأول مرة منذ مدة طويلة، ويتأمل زحام الناس على شاطئ البحر، مستعيداً ذكرى آدم: «هكذا شهد الشاطئ مولد آدم وحواء، ولكن لا يدرى أحد من سيخرج من الجنة».. لابد من الخروج إذن!. إن الخروج يتحول إلى مثل شائع يتكرر كثيراً، والشيطان هو المتهم دائماً، كما تقول أم أمينة لابنتها، المطرودة من بيت الزوجية بعد زيارتها لمسجد الإمام الحسين أثناء سفر زوجها فى «بين القصرين»: «أيزل اللعين قدميك بعد خمسة وعشرين عاماً من الوئام والسلام! ولكنه هو الذى أخرج أبانا آدم وأمنا حواء من الجنة!». ويكتسب الخروج من الجنة مغزى أعمق فى أعمال أخرى، ففى «أصداء السيرة الذاتية»، وتحت عنوان «لا تصدق»، يقدم نجيب محفوظ لقطة موحية بالغة العمق: «قال الشيخ عبدربه التائه: جاءنى رجل وقال لى: «لا تصدق.. ما أنت إلا ابن الصدفة العمياء.. وصراع العناصر.. بلا هدف جئت… وبلا هدف تذهب.. وكأنك لم تكن». فقلت له «سبق أن صدق أبوك ما لا يجب تصديقه.. فخسر الراحة والنعيم». الأب هنا هو الأب الأكبر، آدم، الذى صدق، ما لا يجب تصديقه من وسوسة إبليس، فهوى ومعه من بعده، إلى أرض الصراع والمعاناة، والمأساة المروعة أن أحفاد الأب، المطرود لغفلته، يواصلون سيرته المأسوية فى تصديق ما لا يجب تصديقه!.
أما عثمان بيومى، فى «حضرة المحترم»..، فيبحث فى خروج آدم عن «فلسفة إلهية»، تدعم من طموحه الدنيوى الوظيفى غير المحدود، ذلك أن غايته العظمى هى الحصول على درجة «المدير العام»..!. عندما يقول له رئيسه حمزة السويفى: – السعادة هى غاية الإنسان فى هذه الحياة. يرد عثمان بازدراء باطنى: – لو كان الأمر كذلك لما سمح سبحانه بخروج أبينا من الجنة!. السعادة ليست بالغاية المنشودة، فالهدف عند عثمان هو «الطريق المقدس»..، وهو طريق المجد، أو تحقيق الإلوهية على الأرض!. لا يهدف عثمان إلى «سيادة الدنيا»، بل إنه يقنع بالطموح إلى «المركز الإلهى» الذى يوجد فى كل موضع، وبالنسبة له، ومن منطلق أنه نموذج غير مسبوق للموظف المصرى الذى يرى الوظيفة الحكومية هى الغاية، فإن درجة «المدير العام» هى الهدف الذى يسمو على السعادة!. وأكثر ما يلفت نظر أنيس زكى، «ثرثرة فوق النيل»، فى قصة الطرد من الجنة، سؤال يتوافق مع عموم نظرته الساخرة للحياة، وهى سخرية عميقة بعيدة عن السطحية، ومتعددة الأبعاد والآفاق: «متى تشاجر آدم – بعد الهبوط من الجنة – مع حواء لأول مرة؟ وهل فات حواء أن تحمله مسئولية المأساة التى صنعتها بيديها؟».!. الآخرون يسقطون الماضى على الحاضر، أما أنيس، المدمن الذى لا يفيق، فينفرد بإعادة إنتاج الماضى على ضوء معطيات الحاضر! إن نجيب محفوظ نفسه يطمح إلى إعادة تجسيد قصة آدم وحواء بشكل عصرى، وفى قصة «العجوز والأرض»، مجموعة «الفجر الكاذب»، يستصلح زوجان عجوزان قطعة صغيرة من الأرض بجوار النيل، ويراودان حياة جديدة كأنهما آدم وحواء، لكن التعليمات الحكومية «المقدسة» تعصف بهما، وتحول بينهما وبين استمرار البقاء فى الجنة التى صنعاها. وعلى نحو ما، فإن المؤسسة البيروقراطية المصرية الحديثة، هى إبليس القديم!. طوفان نوح تستدعى شخصية النبى نوح عليه السلام، وقصة طوفانه، فى عالم نجيب محفوظ، للتعبير عن دلالتين رئيسيتين: الأولى تدور حول الانتقام والبطش، والثانية مرتبطة بالقدم. النبى نوح عليه السلام، وطوفانه المدمر العنيف، يمثلان أداة فاعلة للتعبير عن الرغبة فى الانتقام، ذاتيا كان أم موضوعيا. فى «الباقى من الزمن ساعة»، ثأر شخصى للمحامى الإخوانى محمد حامد برهان، الذى اعتقل وعذب بعد صدام ثورة 23 يوليو مع الإخوان المسلمين، وبعد الإفراج عنه، وقد فقد ساقا وعينا: «ينهمك فى عمله انهماك مؤمن معذب يحلم بطوفان نوح من جديد». أما أحمد عبدالجواد، فى «بين القصرين»، فيستمع إلى حكايات عن الفظائع التى ارتكبها الإنجليز، أثناء اشتعال ثورة 1919، فى قريتى العزيزية والبدرشين، وهى فظائع لم تطله، لكنها ليست بعيدة عنه، ويتخيل نفسه معرضاً لمثل ما تعرض له سكان القريتين، فيستدعى الغضب الانتقامى ممثلاً فى النبى نوح وطوفانه: «أين رحمة الله؟ أين انتقامه؟ الطوفان… نوح»!!. الإخوانى المعذب فى السجون الناصرية يحلم بطوفان يزيح السلطة، والتاجر المذعور يراهن على نوح وطوفانه، وكلاهما بلا حيلة فى مواجهة قوة عاتية لا قبل لأحدهما بمواجهتها: ثورة يوليو، والاحتلال الإنجليزى. وإذا كان النبى نوح عليه السلام قد دعا قومه طويلاً إلى اتباعه والإيمان به، فلم يصدقوه وسخروا منه، فإن الموظف الصغير الذى يصر أنه قابل المدير العام، وأقرضه خمسة وعشرين قرشاً، يتعرض لسخرية زملائه الموظفين فى قصة «المقابلة السامية»، مجموعة «الجريمة»، فلا يجد ما يسلى به نفسه إلا أن يتذكر قصة نوح: «وتذكرت سخرية آل نوح منه، وكيف كانت العاقبة للمتقين». الموظف الصغير البائس، المحاصر بالسخرية والتكذيب، يأمل فى إنصاف قد يطول أمده، وليس من نموذج للصبر الإيجابى الطويل يفوق صبر من صدقوا النبى نوح وآمنوا بدعوته، وتعرضوا للكثير من المضايقات والمهاترات، قبل أن ينتصروا وتصل بهم رحلة الصبر إلى شاطئ الأمان، حيث النهاية السعيدة التى تليق بتقواهم وإيمانهم. ولأن سرور عبدالباقى، فى «المرايا»، شخصيته تتسم بالورع والتدين، منذ الطفولة المبكرة فإنه يلجأ إلى قصة النبى نوح ليفسر علاقة التوتر والكراهية المتبادلة بين خليل زكى، زميلهم المشاغب، وأبيه: «إن الله سلط عليه أباه كما سلط الطوفان على آل نوح!». المقارنة بعيدة عن المنطق بطبيعة الحال، لكن الطفل المتدين، محدود الذكاء الاجتماعى، لا يملك أن يتجاوز مثل هذه الرؤية الشكلية. وفى المقابل، فإن الناجين من الطوفان، الذين اتبعوا النبى نوح وركبوا سفينته، يمثلون معادلا للقلة الآمنة فى الزمن المعاصر المضطرب، أو كما يقول الشيخ فى قصة «النسيان»، مجموعة «التنظيم السرى»: «بيتنا مثل سفينة نوح فى هذا الطوفان الذى يحدق بنا». ويتحول نوح، الأب الثانى للبشرية بعد آدم، إلى دلالة زمنية، مرتبطة بالإيغال فى القدم، قد يرتبط القدم الزمنى بشخص عاش أكثر مما ينبغى، من منظور الآخرين، كما هو الحال بالنسبة للصحفى العجوز عامر وجدى، فى «ميرامار»، الذى يتعرض لسخرية الجيل الجديد من الصحفيين: «ذلك العجوز الذى يخفى جسده المحنط تحت بدلة سوداء من عهد نوح»!. وقد يرتبط القدم بعادة راسخة، إلى الدرجة التى يختفى فيها الزمن ويصعب تحديده فى «حضرة المحترم»، يلمح عثمان بيومى زوجه قدرية، العاهرة المتقاعدة، وهى تتناول قطعة من الأفيون، فيفزع ويصيح: – لا.. وترد قدرية بحدة: – لا تتعرض لهذا ويسأل عثمان بلهفة: – منذ متى؟ – من أيام سيدنا نوح! تريد القول إنها عريقة فى الإدمان، ووثيقة الصلة به، وتمتد العلاقة مع الأفيون إلى زمن قديم يصعب تحديده!. إبراهيم الخليل يتمثل الوجود الأساسى لأبى الأنبياء إبراهيم الخليل، عند نجيب محفوظ، فى ارتباطه بالنار، التى ألقاه فيها قومه، ونجا منها برعاية الله، كمعجزة خالدة يضرب بها المثل. النار المادية التى أحاطت بالنبى إبراهيم لا تختلف، عند كمال عبدالجواد فى «قصر الشوق»، عن نار الحب التى يكتوى بها مع عايدة شداد، وهى نار تحتاج إلى معجزة لإطفائها، شبيهة بمعجزة إبراهيم، فى ذروة عذابه، يبسط كمال راحتيه إلى رب السماوات، وهو يدعو من الأعماق: «اللهم قل لهذا الحب: كن رماداً كما قلت لنار إبراهيم كونى برداً وسلاماً». وإذا كان نسيان الحب هو ما يراوده كمال، فإن نسيان الموت والموتى هو ما تنشده أمه أمينة، فى «السكرية»، لابنتها المنكوبة عائشة، نكبتها بعد أن فقدت زوجها وابنيها، لا تقل فى قسوتها عن النار التى كابدها ونجا منها أبو الأنبياء، وليس من سبيل إلى النسيان والسلوى، من منظور أمينة، إلا بزيارة الحسين: «طاوعينى وتعالى معى إلى الحسين، ضعى يدك على الضريح واتلى الفاتحة، تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم». عند كمال وأمه، تمثل واضح مباشر لألفاظ الآية القرآنية الكريمة: «قلنا يانار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم…» سورة الأنبياء – آية 69» للحب اليائس الفاشل آلامه، وللموت وذكريات الموتى عذابات وأوجاع، ولا أمل فى الخلاص من نار المعاناة إلا بتحولها إلى «برد وسلام»، والمثل الأعلى هو خليل الله إبراهيم. المظهر الآخر، والأخير، لوجود النبى إبراهيم عليه السلام، فى عالم نجيب محفوظ، نجده فى حرص صادق صفوان، فى «قشتمر»، على تسمية وليده الأول باسم إبراهيم: «تيمنا باسم أبى الأنبياء».
سحر الأساطير يتداخل سليمان الحكيم، بعالمه الأسطورى السحرى فى الموروث الشعبى، مع الخرافات والإضافات الخارقة، فى تشكيل أزمة من الأزمات العديدة لأحمد عاكف، فى «خان الخليلى»، الباحث عن التحقق فى العلم أو الأدب أو السحر!: «ذلك أنه كان يؤمن بالسحر ولا يشك فيما يلقى على سمعه من أساطير، وعثر يوماً بموظف قديم راسخ الاعتقاد فى السحر والشياطين، فأقبل عليه بشغف واهتمام، وبعد أن توطدت الصداقة بين الاثنين أعاره الرجل بعض كتبه القديمة عن السحر وتحضير الشياطين ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادى، وطار بها الشاب سروراً وعدها أجل ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماس ويقين يحل رموزها ويفقه أسرارها، ويتحرق شوقاً إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان!». إن أحمد عاكف يحلم بقوة سليمان غير المحدودة، ومجده غير المسبوق، وفى كتاب «خاتم سليمان»، تبدو الأحلام قريبة المنال وبلا مجهود، ولأنها فى حقيقة الأمر بعيدة، فإن العقل يختل، والأرق يعشش، والمرض يشتد ويوشك أن يقوده إلى الجنون أو الموت!. وإذا كان أحمد عاكف يبحث فى كتب السحر عن خاتم سليمان والقوة اللانهائية، فإن «على جلال» فى قصة «سمارة الأمير»، مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»..، يبحث عن الخاتم، بشكل عملى، من خلال استثمار عشيقته شلبية فى ملهى «الفلير دامور» بالشاطبى: «إنى أعرض عليك خاتم سليمان». الفارق بين أحمد عاكف وعلى جلال، هو الفارق بين الغارقين فى كسل الراحة وأحلام اليقظة السلبية، والساعين فى نشاط وجد، دون نظر إلى المشروعية والأخلاقية، لتجسيد الأحلام بالعمل!. وفى رواية تمتلئ بعبق السحر وأريج الخيال: «ليالى ألف ليلة»، يبدو منطقياً أن يحتل سليمان، بحكاياته وأساطيره، مكانة مهمة تتوافق مع عموم اللوحة التى يقدمها نجيب محفوظ.. عندما يدرك جمصة البلطى أنه حيال «عفريت» منطلق من قمقم، لا يملك إلا أن يهتف: «الأمان بحق مولانا سليمان!». لا يحتاج الأمر إلى مشقة للربط بين سليمان والعفريت، لكن المسألة تختلف بالنسبة للعفريت نفسه، فهو ما يلبث أن يسأل محرره البشرى: – أخبرنى أولاً عما فعل الله بسليمان؟ ويرد جمصة؟ – مات سيدنا سليمان منذ أكثر من ألف عام. وهنا ينطلق العفريت، الذى طال حبسه، ليكشف عن متاعبه المادية والمعنوية فى التعامل مع سليمان: – مباركة مشيئة الله، هى التى سلطت علينا إرادة آدمى لا يرقى ترابه إلى نارنا، وذلك الآدمى هو الذى عاقبنى على هفوة من هفوات القلب يغفر الله أكبر منها برحمته. ليس عالم الجن خاليا من الهموم، والقوة المرعبة التى يحسدون عليها من البشر، ليست بقادرة على إسعافهم فى ظل غياب الحرية!. أما معروف الإسكافى، فى الرواية نفسها، فقد التهم ذات ليلة فوق طاقته من المنزول، ومضى إلى قهوة الأمراء والدنيا لا تسعه من السلطنة، ونظر فى وجوه أصحابه وقال: – أقول لكم سراً لا يصح أن يخفى عنكم.. أما هذا السر الوهمى، فهو: – أقول لكم الحق إنى عثرت على خاتم سليمان!. وبتأثير المنزول يستمر معروف فى لعبته العبثية، فيقول فى مفاجأة: – ياخاتم سليمان ارفعنى إلى السماء. ولم تكن الدهشة التى أصابت معروف الإسكافى نفسه، أقل مما لحقت بالآخرين، وهو يرتفع فعلاً!. وتنهال على المسطول، الذى تحولت أوهامه ألى حقيقة، مجموعة من الأسئلة والأحلام: – أين وجدت الخاتم؟ – متى وجدته؟ – ماذا أنت فاعل به؟ – صف لنا العفريت. – متى تحقق أمانيك؟ – لا تنس أصدقاءك. – إخوانك الفقراء. – اجعلها كما ينبغى لها أن تكون. – لا تنس الله فهو صاحب الملك. ويمارس الخاتم الوهمى دوراً بالغ الخطورة فى حياة معروف، وفى تشكيل مواقف الآخرين تجاهه وتحديد أسلوب تعاملهم معه، إنه لا يملك الخاتم، لكنه يملك إيمان الناس بأنه يملكه!، وعلى حد تعبير صديقه عجر الحلاق: «لا تبال بأحد فإنك أقوى رجل فى الدنيا، والناس الآن بين اثنين، من يخشى قوتك حرصاً على جبروته، ومن يرجوها رحمة بضعفه»!. ويتجلى صدق المقولة السابقة فى قول المفتى لمعروف، فى حضور حاكم الحى: «ملك قبلك آحاد خاتم سليمان فكان وبالا عليهم، فلتكن فى امتلاكك له آية للمؤمنين وموعظة للمشركين».
وبقوة الوهم، ينتقل معروف من حال إلى حال، ويتكرر نجاحه فى اللعبة الغرائبية أمام السلطان شهريار، فلا يملك الطاغية الرهيبة إلا أن يهتف: «ما أتفه السلطنة!.. ما أتفه الغرور!». أى شىء تمثله سلطة شهريار وقوته، فى مواجهة سلطة غير محدودة، وقوة خارقة، يمثلها الخاتم القادر على صناعة المعجزات؟!. إن خاتم سليمان رمز لذلك الحلم الإنسانى الدائم بامتلاك قوة خارقة غير محدودة، وإذا كان بعض البشر يتمسكون بحرفية الحلم، فإن بعضهم الآخر يترجمه إلى سلوك ونشاط نفعى يغنيه عن الخاتم وقوته. عجر الحلاق هو الأكثر موضوعية وواقعية، والسلطان شهريار هو الأعظم ألما ومرارة، والمفتى هو الأقرب إلى الانتهازية والنفاق، ذلك أنه يردد ما لا يؤمن به أو يمارسه!. وفى كل الحالات، يظل النبى سليمان عليه السلام، رمزاً فريداً للآدمى الذى استطاع أن يملك مالم يملكه بشرمن قبله أو بعده!. الصبر والحوت قصة كاملة فى مجموعة «الشيطان يعظ»، تحمل عنوان «أيوب»، وينم عنوانها عن القضية التى تعالجها، حيث يتحول صبر المليونير المريض وإرادته إلى أداة وحيدة للنجاة، مثله فى ذلك مثل النبى المبتلى، لكن القصة تخلو من الإشارة إلى أيوب النبى، وكأنها تكتفى بالأثر المؤكد الذى يتركه العنوان، فقد تحول اسم أيوب إلى رمز إنسانى عام للمزيج المتلازم من التعرض للمحنة والصبر عليها والتغلب على آثارها. وفى «زقاق المدق»، يلجأ السيد رضوان الحسينى، الشخصية المتدينة الصابرة على المصائب الشخصية ممثلة فى فقد الأبناء إلى نموذج النبى أيوب، للتخفيف عن صاحب الوكالة سليم علوان، الذى تسيطر عليه المرارة بعد محنته المرضية «ولكن الله امتحن عبده أيوب وهو نبى». الابتلاء ليس عقابا، والأنبياء أنفسهم لا ينجون منه، فلماذا لا يتوافق سليم مع مرضه، ويسلم به، ويبحث بالإيمان القوى عن الجوانب الإيجابية المضيئة فيه؟!. وتزداد مكانة النبى يونس نسبياً، مقارنة بأيوب، ففى «ثرثرة فوق النيل»، يحلق أنيس زكى، بفضل المخدر، فى سماواته الخاصة، منعزلاً عن مجالسيه فى العوامة: «ورنا إلى الظلمة خارج الشرفة فرأى حوتا هائلاً يقترب فى هدوء من العوامة.. إنه ليس بأغرب ما رأى فى النيل عند جثوم الليل، لكنه فغر فاه هذه المرة كأنما يعتزم التهام العوامة، وتواصل الحديث بين المساطيل بلامبالاة فقرر أن ينتظر ما يحدث بلا مبالاة، وإذا بالحوت يتوقف عن التقدم، وإذا به يغمز بعينيه وهو يقول.. أنا الحوت الذى نجى يونس.. ثم تراجع واختفى. وعند ذاك ضحك أنيس.. قد يكون الحوت موازيا فنيا ومعادلاً موضوعياً للعوامة، لكن «غمزة عين» الحوت تمثل فاصلاً حاسماً بين مجاهدة وصبر يونس النبى عليه السلام، وسلبية وثرثرة أنيس ورفاقه. صحيح أن الفارق شاسع بين النبى يونس وشلة العوامة بشكل عام، وأنيس زكى على وجه الخصوص، لكن: ألا يمكن التماس نوع من المشابهة، قوامها ذلك الإلحاح على الحوت ورغبة النجاة وحلم الخلاص؟!. ويتجلى ارتباط الحوت بالنبى يونس مرة أخرى فى قصة «اللقاء»، مجموعة «الشيطان يعظ»، حيث يسعى جبريل الصغير إلى تشجيع فؤاد صاوى على مشاركته فى عمليات التهريب، محتذيا بالأنبياء ومنهم يونس: «شجعه بمثال سيدنا يونس وجف الحوت فقال فؤاد بلسان متعثر من الشراب: «إنه السجن وليس الحوت!»». الإغراء والسجن والوزارة يستخدم نجيب محفوظ مفردات قصة النبى يوسف، عليه السلام كأدوات تشبيه تصف شخصياته للتعبير عن أحاسيسهم تجاه بعض المواقف التى يواجهونها، ولا يجدون ما يعبر عنها إلا باستعارة مفردات من قصة النبى: التعفف والإغراء الجنسى، والسجن، الوزارة. فى «ثرثرة فوق النيل»، تدور الجوزة وتتخلف سناء الرشيدى، عشيقة الممثل السينمائى رجب القاضى، فيتذكر أنيس زكى كيف أغرته بمغازلتها: «وكيف أبى كيوسف! وكيف يصنع الحب الحكايات من قديم الزمان»!. وفى قصة «الزيف»، مجموعة «همس الجنون»، يستخدم على أفندى جبر التشبيه بصورة مغايرة، فإذ تدعوه أرملة على باشا عاصم، التى تظن أنه الشاعر محمد نور الدين، إلى بنوارها: «خيل إليه غروره أنها ربما رأته من حيث لم يرها وأنها ربما وقع فى نفسها منه – كما حدث لغيرها وإن كن لسن من نوعها – ما علقها به، فإذا صدق حدسه – والدلائل تجمع على صدقه – فهى تدعوه كما دعت قديما امرأة العزيز فتاها!!».
الفارق بين أنيس زكى وعلى جبر، يتمثل فى التشبيه المباشر الذى يستخدمه أنيس، والتشبيه غير المباشر عند على جبر، ومن ناحية أخرى، فإن التباين فى الاستخدامين يكشف عن الاختلاف بين الشخصيتين، فعلى الرغم من أن الإغراء فى الحالتين نابع من الخارج، فإن مخدر أنيس يقوده إلى السلبية الساكنة التى تستدعى رفض يوسف، وشجاعة على جبر تفضى به إلى الإيجابية التى لا تتذكر إلا إقبال امرأة العزيز!. وفى قصة «المقابلة السامية»، مجموعة «الجريمة»، يتمثل موظف الأرشيف المسحوق قصة النبى يوسف، لمواجهة ما يتعرض له من الظلم: «وقلت لنفسى إنه – جل جلاله – سيخرجنى من أحزانى كما أخرج يوسف من سجنه». وهذا السجن هو ما يستشهد به جبريل الصغير فى قصة «اللقاء»، مجموعة «الشيطان يعظ» لتشجيع فؤاد الصاوى على المغامرة، ذلك أنه يذكره بسيدنا يوسف. «وكيف أفضى به السجن إلى الوزارة»!. صحراء التيه فى «ميرامار»، يأتى اسم النبى موسى عليه السلام، فى سياق آية قرآنية يتلوها الصحفى المعتزل عامر وجدى: «نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون». وتستغل بعض شخصيات نجيب محفوظ جزئيات من قصة النبى موسى، للتدليل على مواقف شخصية ورؤى ذاتية. فى «قلب الليل»، يعبر جعفر الراوى عن حيرته وقلقه مستشهداً بموسى: «لقد أدرك الإنسان الحياة والموت والخوف فافترض عقله فرضا لينقذ الأمل، وحتى موسى نفسه أراد أن يرى الله»!. وفى قصة «اللقاء»، مجموعة «الجريمة»، يتمثل جبريل الصغير بالنبى موسى، لتشجيع فؤاد الصاوى على المغامرة «وحدثه عن سيدنا موسى وهجرته الأولى من مصر ثم قال: لولا ذلك ما صار نبياً»!. ولا يجد سعيد مهران، فى «اللص والكلاب»… ما يدلل به على ثقته العمياء فى صديقه عليش وزوجته نبوية، اللذين خاناه شر خيانة، إلا تذكره لغياب موسى الطويل فى الصحراء، الذى لا يستطيع غياب مثله أن يؤثر عليهما فى ظنه القديم: «وآمنت بأننى لو أرسلته مع نبوية إلى الصحراء التى تاه فيها سيدنا موسى، لظل يرانى قائماً بينه وبين نبوية فلا يحيد عن الأدب». أما فرعون موسى، الذى تتحدث عنه الآية القرآنية الكريمة، فلا يعرف أسمه على وجه اليقين، فقد كان إخناتون أحد المرشدين الروحيين فى قصة «السماء السابعة..، مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»: «وطال المقام بإخناتون فى العمل كمرشد لأنه لم يوفق معه أو مع غيره ممن انتدب لإرشادهم»!