ريم صالح
وكحك العيد ليس مجرد حلوى تُصنع في مناسبة عابرة، بل هو طقس مصري أصيل يمتد جذوره إلى عهود المصريين القدماء، حيث نقشت جدران المعابد المصرية القديمة صوراً لأقراص حلوى تشبه الكحك الذي اعتادت أمهاتنا على صنعه منزليا واعتادت الاجيال المعاصره على شراؤه، تُقدم قرابين للآلهة احتفالاً بمواسم الحصاد وتجدد الحياة. كما الاحتفال الحالي بإنتهاء الصيام المربوط بتجدد التطهر؛ ولا عجب فالصيام نفسه عبادة مصرية قديمة مارسها المصريون القدماء للتطهر من الآثام.
مهما قالولك إن الكحك أكلة فاطمية _نسبة للعصر فالطمي” أوعى تصدق؛ مع مرور القرون، احتضنت مصر بأديانها المختلفة هذا الموروث، فأصبح الكحك رمزاً للفرح بعد فترة من التقشف والتطهر الروحي. يختم المسلمون به شهر رمضان المبارك، ويحتفي به المسيحيون بعد الصوم الكبير. وهنا تتشابه أيدي النساء المصريات في كل بيت، مسلمات ومسيحيات، وهن ينقشن عجينة الكحك بنقوش واحدة متوارثة عبر الأجيال، ويملأن البيوت برائحة السمن البلدي الفواح والسمسم المحمص، بينما تتنوع الحشوات من عجوة تمر سكرية إلى ملبن لوز أو جوز. تلك الرائحة العطرة التي تتسلل إلى كل ركن في البيت أيام العيد، لتعلن أن زمن الصيام قد ولى، وأن وقت الاحتفال قد حان.. بينما الرجال تنحصر مسؤلياتهم في تناوله والاستمتاع به؛ وفي أحسن الأحوال التباهي بقدرة الزوجة على صنع أفضل طعم يذوب في الفم بمجرد إلتقامه.
فحين تلتف العائلات حول موائد العيد، وتمتد الأيدي لتتناول قطع الكحك المنثور عليها سكر الناعم كالثلج، تذوب الفوارق وتتلاشى الحدود، ليبقى الكحك شاهداً على أصالة هذه الأرض التي احتضنت حضارات وديانات، وصهرتها في بوتقة واحدة، فكان الكحك – كمصر نفسها – قادراً على العبور بين الأزمنة والأديان، محافظاً على روحه الأصيلة وطعمه الفريد الذي لا يشبهه طعم آخر في أي بقعة من بقاع الأرض.
ولا يقتصر الاحتفال بالعيد على الكحك وحده، بل تمتد المائدة المصرية لتشمل طقوساً فريدة الفسيخ – ذلك السمك المملح – صنف مصري خالص لا يشاركنا فيه أحد، ينفرد به المصريون ويتباهون بتناوله رغم رائحته النفاذة. أما الكشري، فهو مثل الشعب المصري تماماً: متنوع المكونات، متعدد الطبقات، يجمع بين المختلفات من أرز وعدس ومكرونة وحمص، مثلما يجمع شعب مصر بين أطياف وثقافات متنوعة، لكنها تنصهر معاً في وحدة متناغمة تصنع مذاقاً فريداً لا يمكن محاكاته.. هذا الإرث الثقافي الفريد لم يكن ليستمر لولا النساء المصريات، اللواتي حملن على عاتقهن مسؤولية نقله عبر الأجيال، فكانت المرأة المصرية – منذ قديم الأزل – هي وعاء الثقافة المادية وغير المادية، تحفظها في ذاكرتها وتنقلها بيديها، من جدة إلى أم إلى ابنة، في سلسلة متصلة من العطاء لم تنقطع رغم تعاقب العصور وتغير الأنظمة والحكام.
تقف المرأة المصرية في مطبخها، تعجن وتخبز وتعد الولائم، فتغدو كأنها كاهنة تؤدي طقساً مقدساً، يتجاوز فعل الطهي البسيط إلى حفظ الهوية وصيانة الذاكرة الجمعية لشعب عريق، وتظل أيديها – الممتدة بالعطاء عبر آلاف السنين – هي الأيدي الأمينة التي حفظت لمصر هويتها الفريدة حتى في أحلك الظروف وأشدها تحدياً.
كل سنة زواحنا المصريين والمصريات على الهوية المصرية محافظين.. وبالحياه فرحانين ومش مستسلمين.. كل سنة والعالم كله بخير وسلام واستمتاع بالحياة.