لوحات حامد ندا
( ..تتعمد أن تلفحه أنفاسها الحارة، رآها كيف كانت تجلس على كرسي خشبي منبسط تحت الجاموسة رافعة ثوبها حتى فخذيها تتحسس ضرعها وهى تضع القعب الفخاري فى حجرها وتسحب حلماتها بكفيها في لطف لتحننها حتى يبدأ اللبن فى التدفقق فتجذبه بقبضة قوية وهو يقف عند رأسها يقرب لها التبن ويربت على رقبتها يسترق النظر..)
هكذا سقط الفتى دانيال فى فخ زوجة شقيقه فايز الذى عاد من الإسكندرية فجأة وفتح باب غرفته ليجدهما معاً! وتعالت الصرخات فى بيت الست سعادة وجلس الأب مكسوراً وهو يردد : دانيال ما يعملش كده.. ابني ما يعملش كده.
الحدث الذى هز البلد مطلع فجر ذلك اليوم ليس هو الموضوع الذي تريد الكاتبة منى العساسي أن تطرحه في قصتها (عيلة سعادة) ضمن مجموعتها القصصية وز عراقي ـ الصادر عن هيئة الكتاب ـ لكنها تبحث عن مساحات الضياع في حياة البشر. فهناك مقدمات طويلة عريضة فى حياة دانيال جعلته يستجيب للإغواء، حاول الأب أن يجعل الكنيسة وسيطاً لإقناع فايز بالصفح والغفران عن شقيقه؛ لكنه لم يستطع النسيان وطعن دانيال طعنات تركت فى جسده ندبات قديمة يتحسسها الآن وهو ينام على شاطىء سيرابو بمنطقة جيتا الإيطالية وبجواره صوفيا الحسناء.. لا تقول لك منى العساسي كيف أصبح دانيال الآن بجوار صوفيا، لكنها ستشير بذكاء إلى ذلك.
دانيال المراهق الذى بقي في البلد لرعاية الأرض والذي يتحدث إلى الجاموسة بعد أن فقد كل محاولات الاتصال بالبشر أو بالسماء. دانيال الذي يسرق كي يشترى موبايل ليتابع أحوال صديقاته من العجائز اللائى ييبع لهن جسده؛ يتذكر الآن على الشاطىء كيف كان يلتقط صوراً تبرز عضلاته التي فتلتها أعمال الفلاحة بعد أن سافر أخواه للعمل خارج البلدة. فايزالأخ الأكبر يعمل منذ زمن فى محلات الفاكهة بالإسكندرية، وعيسى يعمل في شركة مقاولات بأسوان؛ وبقى هو في الزريبة يعمل كالحمار ليوفر ثمن السجائر الفرط! ها هو وقد أصبح جالساً على الشاطىء بجوار صوفيا التي يتحسسها ويقول(انتى نعمة واللى يكرهها يعمى)، فهذه العبارة التى لن تفهمها صوفيا هي مصير دانيال الأخير بعد صولات وجولات مع العجائز والراغبات في جسده من أى صنف ونوع.
صنع دانيال فلسفته الخاصة فى التعامل مع الحياة، فالنهار للعذاب والليل للعجائز. وهناك من بعيد آنات ماتيلدا التي تعاني غياب فايز دائما. ماتيلدا ولفحات أنفاسها التي ترسلها إليه لتكسر خجله منها، لكنه ظل يسترق النظر فقط، حتى تكرر مشهد جلوسها على الكرسي المنبسط تحت الجاموسة!.
وإن كان للشعراء قصيدة واحدة في الديوان تكون هي الماستر بيس أو المحور الذي يكشف قدرات الكاتب وطبقات خياله، فإن قصة (عيلة سعادة) تأخذ هذه المكانة في مجموعة (وز عراقي).
قال النقاد قديما إن الكاتب يدّون نصا واحداً مهما تعددت أشكال الكتابة والتعبير لديه، فإنه ـ كما رأى القدامى ـ يدور في فلك معارفه الخاصة وخبراته الحياتية؛ لكن تلك المقولة تتراجع فور الانتهاء من قراءة قصص منى العساسي. عوالم متداخلة، ورغم تميزها إلا أنها لا تكشف عن بدايات مرتبكة في انتظام غير مقصود، لا مفردات تدل على ثقافة بيئة شعبية محددة. كأنما ترد على المقولة الراسخة بانتقال سريع بين اللهجة الصعيدية على لسان أبطال قصة عيلة سعادة؛ والريفية المستخدمة في ريف الدلتا في قصة “حياة”. وقدمت لهذا بشكل أكثر وضوحا فى قصة (جوري مانكي) حين دمجت العربية مع الإنجليزية دمجاً ينقل مشاعر وإحساسيس شخصين مختلفين تماما لكنهما فى دائرة قهر وظلم واحدة. على أن قصة (حياة) جاءت بمفردات عجيبة لم اسمع عنها من قبل لا في ريف الدلتا ولا الصعيد، فأهل البلد يسمعون عن (الهوشة) أو المعركة التي تدور رحاها في (دو الدراعله)، فيقولون (نشوف الجورة فيها إيه) أى نعرف الحكاية إيه فيما يدور في (دو الدراعله) والترجمة : فى ناحية بيت عائلة علي!
(خضرا ماسكة حياة من شعرها عند الدراعله وباركة فوقها وهاتك يا عج ومنين يوجعك).
وعج ..هذه أيضا لم أسمع عنها! لكننى استحسنتها واعتبرتها جزءً من محاولات الكاتبة السباحة مع اللغة من شاطىء سيرابو فى إيطاليا إلى اللهجات والمأثورات الشعبية في ريف الدلتا.
(أخيرا عتقتوني يا ملاعين أنتو ناقص تاكلوني بالقرشين اللي بتدوهم لي).
هكذا تبدأ قصة (جوري مانكي) بعبارة تحمل كل معانى القهر على لسان ممرضة تعيسة تجاوزت الثلاثين ولم تحظ بحبيب ولا زوج ولا جمال. تعمل في بلدة بعيدة وتعيش حياة بائسة وتتربص بها الطبيبات، قالت الممرضة كلمتها وركبت السيارة وانفجر الإطار وذهب السائق عم طه لإصلاحه. وهنا يأتى عالم آخر ينطلق من اللاوعي متحرراً وباحثاً عن غريب في هذه الصحراء يروي وقت الانتظار ولو بالخيال. غريب يأتي بالفعل ويرطن بإنجليزية متكسرة وعربية عرجاء، لكنه يصرخ من ألم الغربة والوحدة والقبح.. (ذهبنا إلى غرفة حقيرة ضيقة حيث الأرض صلبة باردة ..هزم جسدينا طاغوت اللغة والاختلاف ربما الدين أيضا من يدري؟ مزق كلانا الآخر في فوضى مدمرة كأن كلا منّا يمزق قيود عبوديته في هذا البلد الذي يستعبد الغرباء ويقهرهم.
سينطق بكلام كثير عن القلب الفارغ والجسد المنهك، وسيقول (جوري) قاصداً القبيح أو الأسمر البشرة. لكن الممرضة البائسة ستعتبر ذلك اسمها الذي اختاره لها ( جوري .. أسعدنى أن أسمع رجلا يشبهني).
أما هي فلم تجد توصيفا للكائن الغريب الذي مزق صمت أيامها وتقافز فوق تقاليدها وقيودها سوى “مانكي”.
(أعطى كل منا الأخر اسما جديدا، معتقداً آخر يطفو به فوق جحيم المعتقدات، وعذاب الضمير، ورعب الخطايا، حلم وسط كوابيس الغربة الموحشة)
سينتهي الخيال ويأتي عم طه وتعود اللغة إلى صوابها وتتزن الممرضة وهي تعيد ترتيب كلمات المانكي وتترجمها إلى موروث شعبي غنائي:
أنا إنسان شرب المُر بالكيلة
نحسي خلّى ضلّي مرافقني طول الطريق
يا سو شيل سوطك عني
أنا المسجون في ضلي أنا المنحوس
أنا مش تور في ساقية تلم قروش
ولا كلب على رقبته الكل يدوس.
وز عراقي – منى العساسي – الهيئة المصرية العامة للكتاب