عبد السلام فاروق
كلما اقترب رمضان، تبدأ الشاشات في التلويح ببضاعتها: مسلسلات تتنافس في حبكاتها المكررة، ومواسم درامية تُغلف بلمسات “رمضانية” لتسويقها. المشهد يتكرر كل عام، وكأن الشهر الفضيل تحوّل إلى سوقٍ مفتوحٍ للدراما، حيث تُختزل روحانيته في أغنية شائعة أو مشهد مثير. السؤال الذي يفرض نفسه: كيف تحول رمضان –شهر الصوم والقرآن والفتوحات– إلى شهر “الفتوحات التليفزيونية”؟ وأين ذهبت تلك الهالة الروحية التي كانت تُحيط بأيامه ولياليه؟
رمضان في الذاكرة الجمعية لم يكن مجرد شهر للامتناع عن الطعام والشراب، بل كان فضاءً للتحوّل الداخلي، وللتجمعات العائلية حول مائدة الإفطار، ولقراءة القرآن في حلقات المساجد، ولحكايات الجدّات عن انتصارات المسلمين. اليوم، حلّت “المسلسلات الرمضانية” مكان تلك الحكايات، وصارت الشاشة هي المائدة التي تجمع العائلة، ليس حول الحديث، بل حول الصمت المُتقطع بتعليقات على أحداث الحلقات. هذا الانزياح لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو نتاج تراكمي لسيطرة ثقافة الاستهلاك التي حوّلت كل المناسبات الدينية إلى سوقٍ للترفيه، حيث تُقاس “الروحانية” بمدى جذب المشاهدات والإعلانات.
لماذا تنجح الدراما في رمضان؟
لا يمكن فصل ظاهرة هيمنة المسلسلات عن آليات صناعة الترفيه الحديثة التي تبحث عن ذروة المشاهدة لتحقيق الأرباح. رمضان، بشهرته الروحية وارتفاع معدلات التواجد المنزلي، أصبح موسماً ذهبياً للإعلانات والإنتاجات. لكن الخطر لا يكمن في وجود الترفيه ذاته، بل في تحوّله إلى غاية بدلًا من كونه وسيلة. الدراما الرمضانية –في كثير من الأحيان– لا تقدم فنًا راقيًا أو رسالةً إنسانية، بل تستهلك المشاعر عبر حبكات مبالغ فيها، وشخصيات نمطية، وحتى استغلالًا لرموز الدين في سياقات مبتذلة. هنا تصبح الدراما أداةً للإلهاء، تُبعد المشاهد عن التأمل والعبادة، وتستبدل السكينة الروحية بإثارة المشاهد.
الفن الهادف مقابل الاستهلاك المبتذل: أين المخرج؟
النقد لا يعني رفض الفن أو الترفيه، فالفن الجاد يمكن أن يكون جزءًا من تجربة رمضان الثقافية. المشكلة تكمن في انزياح الميزان لصالح الكمّ على حساب الكيف. الحلّ يبدأ بإعادة تعريف “الفن الرمضاني” ليكون تعبيرًا عن قيم الشهر، لا تناقضًا لها. لماذا لا نرى مسلسلات تُحيي سير الأبطال المسلمين؟ أو أعمالًا درامية تطرح قضايا إنسانية بعمق؟ أو برامج تلفزيونية تدمج بين الترفيه والتوعية الدينية بأسلوب مبتكر؟
المطلوب هو وعيٌ مزدوج: من النخبة الفنية بضرورة تحمل مسئولية الرسالة، ومن الجمهور بضرورة انتقاء ما يُشاهده، ومقاطعة ما يُسيء لقدسية الشهر. كما أن للمؤسسات الدينية والثقافية دورًا في تنظيم حملات تذكير بجوهر رمضان، ودعم المبادرات الفنية التي تعيد ربط الناس بالبعد الروحي.
رمضان كفرصة للتوازن: كيف نستعيد الهوية؟
قد يكون رمضان فرصة ذهبية لخلق توازن بين الروحاني والثقافي. بإمكان العائلة أن تخصص وقتًا للدراما، وآخر للقراءة الجماعية للقرآن، أو لحضور محاضرة دينية، أو حتى لإنتاج محتوى فني بسيط في المنزل يعبر عن قيم الشهر. المهم ألا تتحول الشاشة إلى محور الشهر، بل تظهر كأحد عناصره.
الأمل ليس مفقودًا، فما زال في رمضان نفحات قادرة على إحياء القلوب. لكن الأمر يتطلب جهدًا جماعيًا: صنّاع الفن يبتكرون بضمير، والمشاهدون يختارون بوعي، والمجتمع يتذكر أن رمضان ليس سوقًا، بل هو مدرسةٌ روحيةٌ تنتظرنا كل عام كي نتعلم من دروسها.
حين يصبح الصيام انتظارًا للحلقة القادمة !
لا يعيش كثيرون أيام رمضان كفترةٍ متصلة من التأمل، بل كسلسلة من الحلقات المنفصلة: انتظارٌ للإفطار، ثم انتظارٌ للمسلسل، ثم انتظارٌ للسحور… وكأن الزمن الرمضاني تحوّل إلى فترات “فراغ” بين مشاهدَ تُملؤها الشاشة. هذه “ثقافة اللا انتظار” تكرّس فكرة أن الصيام اختبارٌ للملل يحتاج إلى تسلية دائمة، لا اختبارٌ للصبر والارتقاء الروحي. حتى العبادات لم تسلم من هذا التغيير: فالبعض يسرع في صلاة التراويح كي “يلحق” بالمسلسل، أو يتصفح هاتفه خلال الدعاء.
هنا يظهر السؤال: لماذا نسمح للدراما بأن تُعيد تعريف علاقتنا بالزمن المقدس؟ وكيف استطاعت أن تُحوّل لحظات الخشوع إلى فترات انتظارٍ لشيءٍ آخر؟
المسلسلات تتنافس مع التراويح
في الماضي، كانت طقوس رمضان تدور حول المساجد والمطالعة والزيارات العائلية. اليوم، ظهر “طقسٌ موازٍ” تفرضه الدراما: فمواعيد الحلقات تُنظم جداول النوم، ونقاشات العمل تُهمَّش أمام تحليلات الحبكات الدرامية، وحتى الضيوف يُستقبلون أمام التلفزيون لا حول مائدة الحوار. هذا الطقس الجديد لا يلغي الطقوس التقليدية فحسب، بل يخلق ذاكرةً جماعيةً جديدة مرتبطة بأسماء الشخصيات التخيلية أكثر من ارتباطها برموز التاريخ الإسلامي.
الخطورة تكمن في أن هذه الطقوس لا تترك مساحةً للفراغ النفسي الضروري للتأمل. فحين يكون كل وقتك ممتلئًا بالتشويق الدرامي، أين تجد مساحةً لصوت قلبك، أو لصمتك الداخلي؟
ليست كل الأعمال الدرامية سلبية، لكن بعضها يمارس نوعًا من “الانتحال الثقافي”: فتُستعار مفردات الدين ومشاعره لتمرير محتوى ترفيهي مفرغ من الجوهر. مثلاً: مسلسلٌ يروي قصة كفاح عائلة تحت شعار “الصبر رمضاني”، لكنه في الحقيقة يعج بالمشاهد الاستهلاكية والعنف اللفظي. أو مسلسلٌ آخر يضع شخصية “الواعظ” في إطار كوميدي مبالغ فيه، فيتحول الخطاب الديني إلى نكتة.
هذا الانزياح الخطير يجعل القدسيَّ مجرد ديكورٍ لإثارة المشاهد، وكأن الرسالة هي: “يمكنك أن تستهلك الدين كجزء من البackage الترفيهي، دون أن يغير ذلك فيك شيئًا”.
المقاومة الهادئة: كيف نصنع رمضانًا بديلاً؟
المواجهة لا تعني مقاطعة التلفزيون تمامًا، بل إعادة تعريف العلاقة معه:
- الاختيار الواعي: كأن تخصص العائلة وقتًا محدودًا للمشاهدة، وتتفق على اختيار أعمالٍ تحمل رسالةً إنسانية أو فنية متميزة.
- إعادة إنتاج الطقوس: استبدال جزء من وقت الدراما بأنشطة بديلة: حكايات قبل النوم عن السيرة النبوية، أو ورشة رسم للأطفال عن معاني الصوم، أو حتى مسابقة قرآنية عائلية.
- الصناعة البديلة: تشجيع المبادرات الفنية المستقلة التي تنتج أفلامًا قصيرة أو مسرحياتٍ تعيد ربط رمضان بقيمه الأصلية.
قد يقول البعض: “هكذا هو العصر، لا يمكن مقاومة تيار الترفيه”. لكن التاريخ يذكرنا أن الهوية الثقافية تُبنى بالاختيارات، لا بالاستسلام. رمضان مرّ بعصورٍ مختلفة: من أيام الحروب إلى أيام الازدهار العلمي، وكان دائمًا قادرًا على تجديد شرايينه دون أن يفرغ من مضمونه.
التحدي اليوم هو كيف نستخدم أدوات العصر (كالدراما، ومنصات التواصل) لنعيد إنتاج ثقافة رمضانية تحترم القديم دون أن تخاف من الجديد. فالمسألة ليست صراعًا بين “الترفيه” و”الروحانيات”، بل هي معركة لإعادة توطين الروحانيات في قلب الترفيه ذاته.
ربما تكون “الفتوحات التليفزيونية” قد نجحت في غزو جزء من رمضان، لكنها لن تستطيع أن تحتل قلوبًا تعرف كيف تصنع قدسيتها الخاصة. فالشهر الفضيل يظل -في النهاية- مرآةً تعكس ما نحمل له في صدورنا: إن ملأناه بالإلهاءات، أعطانا إياها، وإن ملأناه بالشوق إلى المعنى، ردّ إلينا جوهره.